جار التحميل ...

المسار الجديد: البحث عن دفء السلطة دون الاحتراق بنارها

التغيير من الداخل أم التغيير من الخارج؟ تكاد تتلخص النقاشات الكبرى التي هزت الحراك الشعبي منذ البداية في هذا السؤال، هل نتقدم نحو النظام أم نأخذ مكانه. ولكن كيف نفعل هذا؟ في الحالتين. عاد السؤال مع مبادرة "المسار الجديد" التي ضمت حراكيين التحقوا بمقاعد الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم، محاولين أن يغيروا... من الداخل. روبورتاج.


منذر بوذن، منسق المسار الجديد، يلقي كلمة خلال لقاء بالعاصمة | الصورة: حمدي بعالة

تتدلى الستائر الزرقاء الثقيلة من حول الثريا الكبيرة في السقف لتزينه وتنزل على جدران القاعة المستديرة حتى الأرض. أمّا في موقف السيارات، فقد رُكِنَت مركبات جاءت من العاصمة وجيجل وخنشلة وقسنطينة والأغواط وغيرها. عُلّقت صورة للرئيس عبد المجيد تبون خلف طاولة يجلس إليها ممثلون عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووُضِعت لافتة كتب عليها “لقاء النخب وشباب المجتمع المدني” فوق صورة لشارع ديدوش مراد مكتظ بالمتظاهرين أخذت من عل في عز الحراك.

ثمان كاميرات تلفزيون، بينها واحدة للتلفزيون العمومي، تنقل على المباشر الحدث الذي يحضره بضع عشرات من اﻷشخاص في قاعة “دار الجزائر” بقصر المعارض بالعاصمة. “الجزائر الجديدة هي مشروع مستقبلي لم يتحقق بعد ونعمل على تحقيقه”، يقول رئيس مجلس حقوق الإنسان بوزيد لزهاري خلال كلمة شرح فيها معنى حماية حقوق الإنسان، في حين كان مصورو التلفزيون يُسلّون ضجرهم بتفقد هواتفهم، ويتهامس بعض الحضور في أحاديث جانبية. في حين تحدث بعض الخرجات الغريبة، كالسيدة التي ألقت كلمة بالإنجليزية.

الحدث هو اللقاء الثالث لـ “المسار الجديد” في الجزائر العاصمة، بعد اجتماع فندق الجزائر(سان جورج سابقا) في18 و19 سبتمبر وآخر في قصر المعارض أيضا بداية أكتوبر. تجمعُ المبادرة وجوها من الحراك وأخرى تحسب على السلطة، ما أثار غضب الكثير من نشطاء الحراك الآخرين وسبّب موجة انتقادات حادة على مواقع التواصل طالت الذين حضروا الاجتماعين الأول والثاني، وخلاصة الاتهام أن الأخيرين “باعوا القضية” بجلوسهم مع السلطة في حين ينادي الأولون بالقطيعة. يعتقد البعض أيضا أن “المسار” مبادرة تقف خلفها المخابرات من أجل استدراج وجوه من الحراك لتبييض واجهة السلطة.

وبما أن هذا اللقاء نُظِّم أسبوعا قبل استفتاء أول نوفمبر حول الدستور الجديد فقد استغل بعض المشاركين ممن يحسبون على السلطة كلمتهم للترويج له وذكر ما يعتبرونه مزايا وتقدما في مجال الحريات. يخرج في اللحظات المماثلة بعض “الحراكيين” من أحد أبواب القاعة إلى شرفة لتدخين سيجارات ولتبادل الحديث بينهم على الهامش.

قاعة “دار الجزائر”ليست قاعة فاخرة إلا أنها أوسع بكثير من تلك التي احتضنت يوما قبلها ندوة صحفية للإعلان عن ميلاد لجنة للمطالبة بإطلاق سراح محمد تاجاديت. اكتظ مقر جمعية أهالي المفقودين في شقة في وسط العاصمة بالصحفيين والناشطين وبقي عدد منهم واقفين لسماع المحامي مصطفى بوشاشي حول قضية الشاعر الشاب الذي برز خلال الحراك والمعتقل منذ 27 أوت، في حضور أفراد من عائلته. وعكس لقاء “المسار الجديد”، لم تحضر كاميرات الإعلام الثقيل التي لا تغطي أخبار عشرات معتقلي الحراك ولا محاكماتهم، يغطيها فقط صحفيون على مواقعهم وجرائدهم وصفحاتهم.

الصورة: فيسبوك.

“إذا كان هناك تعسف معزول، حنا رانا نحكيو عليه”، يقول خلال كلمته منذر بوذن، منسق مبادرة “المسار الجديد” وعضو المكتب الوطني في حزب التجمع الوطني الديمقراطي. ” أعلنت من قبل تضامني مع ياسين مباركي”، يذكر منذر بوذن لاحقا في حوار مع “توالى” ويضيف: ” نريد أن نرسخ تقاليد جديدة في العمل السياسي بدل التقاليد القديمة”. الأساليب القديمة التي يتحدث عنها هي التي قادته إلى مساندة مشروع العهدة الخامسة، خطوة يعتبرها اليوم خطأ لكنه لا يرى سببا للاعتذار : ” لم أتقلد أبدا منصبا في السلطة ولم أكن منتخبا. لست أكبر من أن أعتذر بل أنا أقل من ذلك، فأنا مجرد مناضل”.

استغل “الحراكيون” المنخرطون في “المسار” فرصة هذا اللقاء الثالث للحديث عن قضايا معتقلي الرأي، إذ يؤكدون أن الطرف الآخر، أي المحسوبون على السلطة، لم يسمع أغلبهم بهذه القضايا بما أن الإعلام الرسمي وقنوات التلفزيون لا يتحدثون عنها، وكأنهم يعيشون في جزائر موازية. “نحن على بُعد أيام من الاستفتاء على تعديل دستوري يقر ويكرس الحريات، ويخرج قاضي يمد عشر سنوات سجن في قضية رأي. اللّي مد هذا الحكم ماهوش في انسجام مع ما يقوله الخطاب الرسمي ولا مع تطلعات الشعب الجزائري”، يقول خلال كلمته المدون نسيم براهيمي، أحد وجوه الحراك الذين طالتهم الانتقادات، في إشارة إلى قضية الناشط ياسين مباركي المتابع بتهم متعلقة بمنشورات على الفايسبوك.

وفي حديث الشُرفة بعد ذلك يتناقش الحراكيون حول اللغة التي يخاطبون بها “الطرف الآخر”. يُعلّق بعضهم على الكلمات المجاملة للسلطة ويقول أن الاستماع لها هو الثمن الذي يجب دفعه إن أرادوا الخروج بنتائج ايجابية من هذه المبادرة، ويساند آخرون خيار “لغة السياسة”، أي وضع الرسالة في قالب دبلوماسي كما فعله نسيم براهيمي في كلمته، بينما يتخوف الباقي من أن يطغى القالب على المحتوى مع الوقت وتضيع الرسالة، كأن يجدوا أنفسهم مبررين للاعتقالات بدل التنديد بها.

“ثلاثة أيام بعد أن صرح منذر بوذن بأنه يدعم العهدة الخامسة، كان هاشم ساسي، 30 سنة، بين المتظاهرين الذين أسقطوا صورة ضخمة لعبد العزيز بوتفليقة من واجهة بلدية خنشلة.”

“يمكن تمرير نفس المطلب بتبني خطاب معين. وفي تقديرنا يمكن صياغة نفس الفكرة بطريقة تجعل المستقبِل أكثر استعدادا لسماعها وتقبلها وأخذها بعين الاعتبار”، يشرح لاحقا نسيم براهيمي خلال حوار بمقهى في العاصمة.

يعمل نسيم براهيمي، 39 سنة، كأخصائي علم نفس سريري في مدرسة للصم البكم بالجلفة. اشتغل من قبل كصحفي بالتلفزيون والصحافة المكتوبة، كما يُنشِّط نادي للسينما في مدينته منذ 2015. يقول أنه لم يمارس السياسة من قبل في إطار حزبي، باستثناء محاولات مع المنظمات الطلابية أيام الجامعة. “كنت مقتنعا أنه لا جدوى من العمل السياسي لأن الميدان مغلق، سواء كانت لديك أفكار أم لا”، حسبه. بدأ انخراطه السياسي الحقيقي بعد انطلاق حراك 22 فيفري وصار مدونا له تأثير على الفيسبوك. يتابع صفحته اليوم قرابة الـ 20 ألف شخص.

حضر الاجتماع الأول لـ “المسار الجديد” بفندق الجزائر بعد أن اتصلت به المناضلة السابقة في حزب التجمع الوطني الديمقراطي مريم بلقاسمي وكذا المحامي والناشط في الحراك هاشم ساسي واقترحا عليه الفكرة. وطالته الانتقادات بعدما نُشِرَتْ له صور جنب ابتسام حملاوي، المترشحة السابقة للتشريعيات عن حزب جبهة التحرير والتي انتقدت الحراك بسبب المتظاهرين الذين يحرمونها، حسبها، من القيلولة يوم الجمعة. شرح نسيم براهيمي بعدها لمتتبعيه أنه شارك فقط في ورشة تخص الثقافة في إطار ذلك اللقاء، لكن الانتقادات تواصلت باستمرار مشاركته في المبادرة.

“كنت أنتظر ردة فعل خصوصا أننا لم نشرح ولم نتكلم عن الاجتماع الأول، لكن ليس بهذه الحدة”، يؤكد نسيم براهيمي الذي يُرجِع الاستقطاب على الفيسبوك الجزائري إلى عدة أسباب : طبيعة موقع التواصل الاجتماعي في حد ذاتها والتي تضع المستعملين في “فقاعات تشبه الطوائف” وتدفعهم إلى متابعة من يواقفهم الرأي فقط وتقطعهم عن الآراء المخالفة التي تصبح صادمة عند ملاقاتها، الخطاب العنيف الذي تبنته السلطة تجاه الحراك خصوصا بعد تنحي عبد العزيز بوتفليقة والذي غذى الاستقطاب داخل المجتمع، غلق الإعلام والاعتقالات.

“أظن أيضا أن معظمنا كجزائريين اكتشفنا السياسة في 22 فيفري، لهذا فنحن لم نتعلم بعد، لكن مع الوقت وإن توفرت حرية الإعلام واستطاع الناس التعبير عن آرائهم دون أن تمس حريتهم، ستنقص الحدة”، يضيف نسيم براهيمي.

بالإضافة إلى العوامل التي ذكرها نسيم براهيمي، يعتقد الأستاذ هاشم ساسي أن بذور الاستقطاب كانت موجودة في المجتمع قبل الحراك. “نحن مجتمع حدّي، نرى الأمور كلها بالأبيض أو الأسود، شياطين أو ملائكة، مجاهدين أو حركى”، يرى المحامي خلال حديث آخر في مقهى آخر وسط العاصمة.

يرى من جهته نوري دريس، أستاذ علم الإجتماع بجامعة سطيف، أن وجود أسماء دعمت بوتفليقة، مثل منذر بوذن، في هذه المبادرة يفسر الانتقادات : “يعطينا الأمر صورة جيدة أن هذا التنظيم لم يكن ليولد لولا إشارة السلطة بأنه يجب أن يتشكل”.

قبل موجة الانتقادات كان منذر بوذن يتابع بعض الحراكيين البارزين على الفيسبوك. يقول أن التفكير في خلق فضاءات للتشاور بدأ حتى قبل رئاسيات 12 ديسمبر، لكن فكرة “المسار الجديد” تبلورت في أوت الماضي لما اتصل بمريم بلقاسمي التي اتصلت بدورها بعدد من الحراكيين، فيما جنّد هو جمعيات وطنية وشخصيات سياسية وبدأ التحضير لملتقى فندق الجزائر. “أعلمنا أيضا جهات أخرى، نسّقنا وطرحنا الفكرة ولم يكن لديهم اعتراض”، يضيف منذر بوذن. من هي الجهات الأخرى؟ “مثلا الأمين العام للحزب، باش مايقوليش بعدها واش راك تدير، وممكن أيضا الجهات اللي خممت فيهم نتا”، يجيب في إشارة إلى المخابرات. “لكن نأكدلك أن المبادرة تاعنا ناتجة ونابعة من عندنا حنا كمبادرين وفاعلين، أحيانا ممكن نعلمو لكن مالقيناش عرقلة لحد اﻷن”، يضيف منسق “المسار”.

درس منذر بوذن، 38 سنة، الصيدلة بجامعة منتوري بقسنطينة. انضم سنة 2001 للإتحاد العام للطلبة الجزائريين ودخل سنة 2005 للأرندي كمناضل. تدرج وأصبح أمينا عاما للمنظمة الطلابية سنة 2009 ثم عضوا في المكتب الوطني للحزب سنة 2015. “كانت لنا أساليب نضال مؤطرة بتقاليد تقضي أن تدور دائما في فلك السلطة”، يشرح منذر بوذن. يقول أن هذه التقاليد “وضعته في دوامة”و جعلته “مرغما” على قبول خيار الحزب الذي ساند ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة رغم مرضه: “بالنسبة لنا في هذاك الوقت، ماكناش نمشيو مع الرئيس، كنا نمشيو مع النظام.”

“قطعتُ العلاقة مع الأرندي لكن ليس مع السياسة لأنها تسير في دم من مارسوها”

مريم بلقاسمي

يتصور اليوم منذر بوذن “المسار الجديد” كفضاء يسمح لحراكيين “لديهم أفكار” لكن لا يمتلكون خبرة سياسية من الاحتكاك بمن يدور في فلك السلطة. يقول أن الأمر يتجاوز التشريعيات القادمة ولا يتعلق بتأسيس حزب أو جمعية، بل يتعلق بترسيخ تقاليد جديدة في العمل السياسي وعدم الوقوع في “الدوامة” من جديد. يتحدث عن “سقف الحريات العالي” خلال لقاءات المبادرة، كالحديث عن حرية المعتقد، ويقول أن “الجهات الأخرى” لم تعترض على الأمر لما طرحه عليها. هناك سقف أعلى للحريات، كأن تمارس السياسة في بلد ديمقراطي وأن لا تحتاج إلى مشاورة جهات أمنية أصلا قبل أن تعبر عن رأيك. يجيب منذر بوذن هنا : “الجزائر دولة فتية وستصل إلى هذا المستوى من الحرية”. عندما أذكُر للمناضل في الأرندي أن أحزابا ومبادرات أخرى تمنع حتى من الحصول على قاعات لتنظيم فعاليات، وأن الحرية والسهولة التي يتحدث عنها قد تكون تسهيلات يحصل عليها بفضل علاقاته، يرد بالقول : ” قد يكون الفرق أنهم يثقون فينا”.

يُفهم من كلام مناضل الأرندي أن ثقة الجهات الأمنية هي المرجع في ممارسة السياسة وليس القانون. يذهب النقاش معه إلى دور المخابرات في الحياة السياسية حتى في بلدان ديمقراطية. «يجب أن تكون لنا دراية دقيقة عن كيفية سير السياسة في البلدان التي نعتبرها مثلا في الديمقراطية حتى نستطيع القيام باسقاطات”. هل يتخيل أن حزبا معارضا في ألمانيا أو اسبانيا لا يحصل على قاعة لتنظيم تجمع؟ “ليست لي دراية بهذا الموضوع، لكن الدستور الجديد سيقر إقامة تجمعات بمجرد التصريح”. لكن هندسة الدستور الجديد وبرأي المختصين لا تضمن الفصل بين السلطات. “يمكن أن يكون لنا تحفظ على هذه النقطة، لكن نفضل التقدم بخطوة بدل البقاء في مكاننا”. يعود ليقول أن أفراد الدوائر الأمنية وطنيين “يخدموا في خدمتهم”. أجيب أن وطنيتهم وأهمية عملهم ليست موضع شك، لكن الأمر يتعلق بإرساء علاقات عادية يحكمها القانون، كما هو الحال في أي نظام ديمقراطي.

الكتابة عن السياسة في الجزائر تعني في الكثير من الأحيان تقبل إمكانية عدم الوصول إلى الحقيقة كاملة. خلال التحضير لهذا المقال بقيت مقولة لفريدريك نيتشه تفرض نفسها. “لا تحارب الوحوش وإلا أصبحت مثلهم، وإن نظرت مطولا في الهاوية فإن الهاوية ستنظر إليك أيضا”. الجملة مشهورة لحد الكليشيه ولها تأويلات كثيرة، لكن يمكن تشبيه الهاوية بالظل الذي بقي يغطي بعض الأسئلة المتعلقة بـ “المسار” نظرا لتحفظ المعنيين أو لتجنبهم الإجابة عنها. يمكن أيضا أن ينطبق الجزء الأول من المقولة كتحذير يضاف إلى كل الأمثلة عن المعارضين الجزائريين الذين اقتربوا من السلطة فابتلعتهم وأصبحوا جزءا منها. وسط الكم الهائل من الشتائم والانتقادات تجاه نسيم براهيمي وهاشم ساسي وآخرين على الفيسبوك، أعاد البعض نشر صورة لمسيرة في التسعينات يتقدمها معارضو ذلك الوقت : عمار غول، عمارة بن يونس وخليدة تومي لتشبيه حراكيي “المسار” بهم. أصبح الثلاثة بعدها وزراء خلال حكم عبد العزيز بوتفليقة وساندوا عهداته المتتالية وانتهى بهم الأمر في السجن بسبب قضايا فساد بعد سقوطه.

عما إذا كان مصير وزراء بوتفليقة يخيفها، تجيب مريم بلقاسمي بأن الجزائر تعيش اليوم أزمة اقتصادية وأن “عقلية شراء المعارضين بالمناصب لم تعد تنفع”. تدير المناضلة السابقة في حزب التجمع الوطني الديمقراطي متوسطة في العاصمة. تخرجت من جامعة منتوري بقسنطينة بليسانس فرنسية وواصلت دراستها بباريس أين حصلت على ماستر في إدارة الأعمال. بدأت مسارها السياسي في 2009 في المجتمع المدني في قسنطينة، وانضمت في نفس السنة للأرندي، لكنها استقالت منه في 2014 للاحتجاج على مساندة الحزب للعهدة الرابعة لبوتفليقة.

“قطعتُ العلاقة مع الأرندي لكن ليس مع السياسة لأنها تسير في دم من مارسوها”، تشرح أستاذة الفرنسية سابقا. شاركت مريم بلقاسمي في المسيرات منذ الجمعات الأولى، وكان همها ألا يبقى الحراك في منطق الرفض والضغط بل أن يكون قوة اقتراح. كانت تفكر طوال فترة الحراك في إنشاء حركة أو جمعية لمواكبة الأحداث بفعالية أكبر. انضمت بعدها لـ “المسار” وساهمت في تنظيم اللقاء الأول بدعوة عدد من الحراكيين للحضور.  تكشف أيضا أنه هناك وجوه أخرى معروفة في الحراك تساند المبادرة وتعمل معها “في الخفاء” ولا تود الكشف عن نفسها الآن.

ثلاثة أيام بعد أن صرح منذر بوذن بأنه يدعم العهدة الخامسة، كان هاشم ساسي، 30 سنة، بين المتظاهرين الذين أسقطوا صورة ضخمة لعبد العزيز بوتفليقة من واجهة بلدية خنشلة، ثلاثة أيام أخرى قبل بداية الحراك، أي في 19 فيفري 2019. “كتبت يومها أن التاريخ سيتغير، أحسسنا باللحظة في خنشلة وعرفنا أن الحراك قادم”، يتذكر الناشط.

مثل نسيم براهيمي، لم يمارس هاشم ساسي السياسة قبل الحراك، باستثناء تجارب في الثانوية مع أذرع جمعوية وطلابية لحركة حمس. زاول معظم دراسته في مدينة خنشلة وابتعد فكريا وايديولوجيا عن الأحزاب الاسلاموية أيام الجامعة، لكن تجربته السياسية بدأت فعلا بعد بداية الحراك. من حركة “تازي” التي ولدت إثر حادثة بلدية خنشلة الشهيرة، ثم شارك في عدد من مبادرات الحراك، كالمنتدى الوطني للحراك الشعبي ومبادرة 22-2 (التي صار اسمها حاليا نداء 22-2) حيث كان ضمن منشطي ندوتها الصحفية في مقر جمعية أهالي المفقودين يوم 22 فيفري 2020، رفقة الصحفي خالد درارني المسجون حاليا والمحامي حفيظ تامرت وناشطين آخرين.

هاشم ساسي (على اليسار) رفقة محامين خلال مسيرة بالعاصمة | الصورة: هاشم ساسي.

يُحلّل المحامي على مستوى مجلس قضاء خنشلة تجاربه هذه ويرى اليوم أن هذه المبادرات لم تأت بثمار التغيير لعدة أسباب بينها غياب التأطير في الحراك ورفض تيارات كثيرة فيه للفكرة، بشكل أدى إلى عدم بروز لاعبين سياسيين جدد : “خذلت الطبقة السياسية المجتمع، بينما ضم المنتدى مثلا ناشطين أغلبهم شباب ليس لهم ذلك الوزن الإعلامي والمجتمعي لإقناع الناس بخارطة طريقهم”. قد يكون غياب الثقل في المجتمع نتيجة حتمية لغلق الإعلام، لكن الناشط يذكر أيضا غياب دراسة ديمغرافية تأخذ بعين الاعتبار اختلاف المناطق في الجزائر والمعطيات السياسية فيها، ما أعطى مبادرات تتمركز أغلبها في العاصمة، بالإضافة إلى ما يعتبره تراخيا في العمل السياسي: “الناس كانت تظن أن الحراك من الجمعة للجمعة، عمل مثل هذا يحتاج النضال 24 ساعة في اليوم”.

كان لهاشم ساسي متسع الوقت للتفكير في هذه المعطيات بعد توقف المسيرات في مارس 2020 بسبب جائحة كورونا، فكان متقبلا لفكرة “المسار” لما طرحتها عليه مريم بلقاسمي بداية سبتمبر. التقى بعدها بمنذر بوذن في خنشلة وشرح الأخير له الفكرة، فقبل الانضمام إلى المبادرة واتصل بدوره بعدد كبير من الحراكيين للتجنيد لهذا المشروع. لم يستطع حضور الاجتماع الأول بفندق الجزائر لمصادفته يوم زفافه، لكنه شارك في اللقائين التاليين في العاصمة. تحدث في الأول عن قضية ياسين مباركي المتأسس فيها وعن حرية المعتقد، كما أثار في اللقاء مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان قضية وليد كشيدة المسجون منذ أفريل الماضي بسطيف بسبب “ميمز”ينشرها على الفيسبوك.

“أرفض تماما أن يسجن مواطنون بسبب آراء نشروها. من المستحيل أن أقبل دخول إنسان للسجن بسبب رأيه، مهما كان رأيه”، يؤكد المحامي الذي يسعى الآن من خلال المسار الجديد إلى تغيير النصوص القانونية التي تشكل إحدى أدوات القمع، كالمادة 79 من قانون العقوبات المتعلقة بالمساس بسلامة وحدة الوطن والتي توبع بها أغلب معتقلي الحراك. “أحد مطالب الحراك هي مساحة أكبر للحريات، أنا غيرت الوسيلة فقط”، يشرح هاشم ساسي.

خلال محاكمات نشطاء الحراك المتابعين بتهمة المساس بسلامة وحدة الوطن، تقدم كل مرة هيئة الدفاع ضمن الدفوع الشكلية دفعا بعدم دستورية المادة 79 لعدم شرح نصها لصور الجريمة ولا لأركانها. الدفع بعدم الدستورية آلية لتكييف النصوص القانونية مع الدستور، تتضمنها المنظومات القانونية للبلدان الديمقراطية. أدخلها التعديل الدستوري سنة 2016 وبدأ العمل بها في مارس 2019. منذ ذلك التاريخ وإلى اليوم، فصل المجلس الدستوري في ثلاث قضايا من هذا النوع، أفضت إلى تعديل مادة واحدة في قانون الإجراءات الجزائية. فيما يخص قضايا الحراك، فإن القضاة يرفضون في كل مرة طلبات هيئة الدفاع. هذه الإشكالية وأخريات أدت بعض أعضاء هيئة الدفاع مثل الأستاذ مصطفى بوشاشي إلى صياغة عبارة لوصف الوضع : “تغوّل الجهات الأمنية على العدالة”.

عن وجود آلية كالدفع بعدم الدستورية تتكفل ولو نظريا بمسعى تغيير النصوص القمعية، يرد رجل القانون هاشم ساسي أن التغيير أسرع بواسطة العمل السياسي: بدل خوض معركة قانونية في كل مرة، يمكن للمشرع أن يحل المشكلة بوجود الإرادة السياسية. وعن ممارسة السلطة خارج الأطر القانونية وكون المشكل يتجاوز النصوص، يجيب بالقول أن مشكل التداخل بين السلطات واضح وبأن البرلمان عاجز “رغبة وإرادة وقانونا”، لكن الحل يكمن في التحاور مع من بيده السلطة وأن “تحرجه” للخروج بأكبر قدر من المكتسبات. “أعتقد أنه من الممكن في مرحلة ما استعمال وسائل لا ديمقراطية للوصول إلى الديمقراطية”، يقول هاشم ساسي، لكنه يقر أنه لا يوجد في المبادرة طرف بيده السلطة، فقط أطراف مقربة منها أو تدور في فلكها.

يطول الحديث عن القانون وعن التراكمات التي بنت الديمقراطيات العريقة، ثم يعود للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بـ”المسار” لا يعرف من يمول فعاليات المبادرة، لكن الأمر لا يقلقه لأنه حسبه لا يتطلب الشيء الكثير. “كنت لأطرح أسئلة حول ذلك لو تعلق الأمر بأموال كبيرة”.

في حين يؤكد منذر بوذن أن تمويل الفعاليات لا يتطلب مبالغ كبيرة. ساهم هو مساهمة بسيطة، كما يشارك متعاطفون يتحفظ عن ذكر أسمائهم بمساهمات طبيعية تتعلق بالإطعام والإيواء. يقول أن القاعة التي احتوت اللقاء الأول بفندق الجزائر لم تتطلب مقابلا. لكن المشاركين أقاموا ليلة في نفس الفندق ذي الخمس نجوم في قلب العاصمة وهو ليس بالأمر الهين.

القاعة التي احتضنت اللقاء الأول بفندق الجزائر | الصورة: فيسبوك.

يرى عضو المكتب الوطني للأرندي أن الدستور المقترح للاستفتاء الشعبي في الفاتح من نوفمبر يُعد “تقدما في مجال الحريات”. يؤمن مثل رفقائه الجدد بمسعى اقتراح تعديلات على النصوص القانونية لكي لا تتعارض مع “روح الدستور”. يثمن إثارة قضايا ياسين مباركي ووليد كشيدة، لكنه يتجنب الحديث عن قضية الصحفي خالد درارني بالقول أنهم لم يطلعوا على الملف.

يمضي خالد درارني المسجون منذ مارس 2020 عقوبة بعامين سجن نافذة بعد أن أكد مجلس قضاء العاصمة إدانته بتهم “المساس بسلامة وحدة الوطن” و”التحريض على التجمهر غير المسلح”. خلال محاكمته الابتدائية ومحاكمة الاستئناف، طرح عليه القضاة أسئلة تتعلق بعمله كصحفي. وصفه الرئيس عبد المجيد تبون في تصريح قبل محاكمته بالـ “خبارجي” (جاسوس) وحاول وزير الإتصال عمار بلحيمر في العديد من المرات تبرير سجن الصحفي بحجج مختلفة. يفسر هذا الثقل السياسي الذي اتخذته قضية خالد درارني تفادي نشطاء “المسار” الحديث عنها.

لا يعرف منظمو “المسار” بالتحديد عدد النشطاء المنخرطين لحد الآن، لكن المبادرة نظمت قرابة العشرين لقاء ولائيا، وتعتزم إقامة تجمع كبير بوهران حول مسألة الهوية أسبوعا بعد الاستفتاء على الدستور، بالإضافة إلى لقاء آخر بإحدى مدن اﻷوراس ستتم برمجته لاحقا.

يعتقد نوري دريس أن الجزائريين لا يزالون ممنوعين من ممارسة السياسة في ظل غلق الإعلام والمراقبة اللصيقة للأحزاب والجمعيات، وأن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج : “القبول باللعب بنفس الآليات والقواعد التي كانت سائدة قبل 22 فيفري ومازالت سائدة هو انخراط في إفشال مطالب الجزائريين وفي منح السلطة عمرا أطول للاستمرار في تعطيل البلد”.

في حين يرى نسيم براهيمي أنه “ربما يوجد مجال لممارسة السياسة في الملعب المؤطر لإحداث تغيير صغير حسب الإمكانيات المتاحة”.

يبقى أن نيتشه لم يكتب “لا تحارب الوحوش”، بل اشتهرت هذه النسخة من المقولة بسبب ترجمة غير دقيقة إلى الانجليزية. الترجمة الأقرب لما كتبه الفيلسوف بالألمانية هي كالتالي:”على من يحارب الوحوش أن يحذر من أن يصبح مثلهم”. يحدث أن تفقد الترجمة جزءا من المعنى، ويؤكد هذا المثال تخوف الحراكي على شرفة قاعة “دار الجزائر” من فقدان الرسالة لما يترجم المطلب إلى اللغة السياسية. لكن يترجم هاشم ساسي الحذر المطلوب إلى تجنب صفتين : الخوف والطمع. “أوافق من يُشبه السلطة بالنار، الذي يبقى بعيدا عنها يحس بالبرد والذي يقترب كثيرا يحترق. الأول خواف والثاني طماع”، حسب تعبيره. يقول أن محيطه يرى فيه شخصا بإمكانه تقديم الكثير بالانخراط في السياسة، لكنه يتخوف من “دوامة” مثل التي جعلت منذر بوذن يساند العهدة الخامسة: “يمكن القول أن ذلك يشكل كابوسا بالنسبة لي”.

في طريق العودة من إحدى لقاءات هذا المقال، يتحدث فاروق سائق التاكسي عن مشاكل قضائية تخص عمله السابق. كان يشتغل كمصور في قناة تلفزيونية أغلقت العام الماضي لأن مالكها رجل أعمال سُجن بسبب قضايا فساد. يتذمر من تعامل العدالة مع الملف ومن عدم تمكن العمال السابقين من الحصول على حقوقهم بعد، ثم من اعتقالات سمع عنها بسبب منشورات في الفايسبوك. “في وقت بوتفليقة على الأقل كنا نسبوه ونسبو توفيق والقايد صالح. ذرك حتى الصحفي هذاك دخلوه للحبس، رفدوه منا من ديدوش. صح كان معارض بصح من حقو”. لم يذكر اسم خالد درارني، ربما لأنه لا يتكلم لغة السياسة.


  • تصحيح: لقد تم تعديل هذا المقال. ذكرت نسخة سابقة منه أن المشاركين في اللقاء الأول للمسار الجديد “أقاموا لعدة أيام” في فندق الجزائر، في حين أنهم أقاموا ليلة واحدة.