ما حدث يُعدّ حربًا داخل حرب، حربًا في الظلام، في سلاسل الجبال، وفي الأعماق غير المرئية للمغارات والمستودعات. فقد استخدم الجيش الفرنسي، بين عامي 1956 و1961، وفي خضم حرب التحرير، أسلحة كيميائية للقضاء على مقاتلي جيش التحرير الذين لجأوا إلى تجاويف طبيعية أو مهيّأة. وغالبًا ما لم يكن أمام المجاهدين خيار سوى الموت بصمت في جوف الأرض، مختنقين، أو محروقين، أو متسممين بالدخان.
وقد نبش المؤرخ كريستوف لافاي، انطلاقًا من الفيلم الوثائقي الجزائر… وحدات الأسلحة الخاصة من إنتاج كلير بيي، هذه الصفحة المسكوت عنها من تاريخ الجيش الفرنسي، حيث وثّق أكثر من 450 عملية تسميم بالغاز باستخدام أسلحة كيميائية، خاصة في منطقتي القبائل والأوراس. ورغم تغييب هذه الروايات العنيفة عن الذاكرة الفرنسية، فإنها لا تزال حيّة في الذاكرة الشعبية في العديد من قرى الشرق الجزائري، من خلال حكايات تُروى شفويًا عن محرقة عصرية بالدخان، وجثث متفحمة أو مختنقة، ومغارات ممنوع الاقتراب منها، وهي قصص تنتقل من جيل إلى جيل، وتحفظها الذاكرة الجماعية.
من الجانب الفرنسي، ما تزال الحرب الكيميائية الاستعمارية تسبح في منطقة رمادية، رغم الفتح الجزئي للأرشيفات، ورغم شهادات بعض الجنود السابقين الذين شاركوا في العمليات، إضافة إلى منشورات رسمية صادرة عن الجيش الفرنسي. إلا أن هذه المعطيات تبقى، في الغالب، تقنية للغاية بالنسبة للجمهور العام، ومحرجة جدًا للجهات الرسمية، ودون شك مزعجة للغاية للسلطات السياسية المتشبثة بسردية ملطفة.
حرب كيميائية تحت الصمت
بدأت فرنسا بتجريب واستخدام الغازات الكيميائية ابتداءً من عام 1956 تحت إشراف الجنرال شارل أيوري وبطلب من قائد الأركان للمنطقة العسكرية العاشرة، قبل أن تجيز رسميا استخدامها لـ ” فحص” المغارات التي يستعملها مقاتلو جيش التحرير الوطني. قدموا هذه المواد على أساس أنها ” مستعملة في مختلف الدول لغرض حفظ النظام “، كما ورد في رسالة لوزير الدفاع آنذاك موريس بورجيس مانوري التي عثر عليها المؤرخ كريستوف لافاي.لكن في الواقع، كانت هذه الغازات، وهي خليط من الكلوروأستوفينون ، ومشتقات الزرنيخ، ومسحوق أرضي فائق النعومة يُعرف بـ ” تراب المشطورات “، تتسبب في وذمات رئوية وحروق داخلية، وتؤدي إلى الوفاة اختناقًا في الأماكن المغلقة. أسلحة وُصفت بغير القاتلة، لكنها استُخدمت للقتل في صمت أعماق الأرض.
نفذت وحدات خاصة العمليات تُعرف باسم “وحدات الأسلحة الخاصة “، وهو الاسم الذي استُلهم منه عنوان الفيلم الوثائقي. تشكّلت هذه الوحدات من كتيبة أُنشئت في ديسمبر 1956 ضمن الفوج 411 للمدفعية المضادة للطائرات، وقد تم تدريبها في مدينة بورج. زُوّد عناصرها بأقنعة واقية، وقنابل كيميائية، وملابس حماية كاملة بهدف تعقّب المجاهدين حتى في المغارات النائية. وكشف الفيلم الوثائقي الذي أنجزته كلير بيي وكريستوف لافاي عن “فحص” مئات، بل ربما آلاف المغارات الطبيعية بالمواد الكيميائية.
ويشير الوثائقي إلى رقم دقيق: 903 مغارة تم استهدافها في سنة 1961 وحدها، في حين يقدّر كريستوف لافاي عدد الضحايا الجزائريين بين 5000 و10000 شهيد. وفي بعض الحالات، كانت هذه المغارات تُستخدم كملاجئ للمدنيين، كما حدث في مغارة بن شطوح يومي 22 و23 مارس، حيث أدت عملية عسكرية كيميائية إلى مقتل عشرات المدنيين من أبناء القرية.
يحدد القرار الميداني، وطريقة النظر إلى المدنيين الجزائريين، الخط الفاصل بين ما يُوصف “استخدامًا تكتيكيًا” وبين جريمة حرب. ويؤكد لافاي أن: “هذه الوقائع حدثت رغم مصادقة فرنسا على بروتوكول جنيف عام 1925، الذي يحرّم استخدام الأسلحة الكيميائية بين المتحاربين “.
ممارسات موثقة، لكن مطموسة
ما يثير القلق فعلا في هذه الحرب الكيميائية ليس هول ما حدث، بل كونها كانت موثقة، ثم طمست. فقد وثقها العسكريون، والمجندون، والصحفيون والناجين الجزائريين الذين حفرت هذه الحرب الكيميائية في ذاكرتهم.
أحصى كريستوف لافاي في مقال نشره بالموقع الفرنسي الكونفيرسايشن (The Conversation) عدة أعمال تناولت هذه الحرب الكيميائية بحرية، على سبيل المثال، في 1961 يتحدث جورج بوي في كتابه المغارة (La Grotte) عن تنفيذه لعمليات ضد جيش التحرير الوطني في أعماق الجزائر، وفي 1981 يتحدث سعيد فردي في كتابه “طفل في الحرب” عن كيف قتل 90 مدنيين من سكان قرية اختناقا في مستودع لتخزين الحبوب. ويشهد مجند سابق أرماند كازانوفا قائلا:” مازلت أشم رائحة الغاز، والموت أيضا. ففي داخل المغارة، وخلال 15 دقيقة، كنا نموت اختناقًا “. كتب المجند السابق في الجيش الفرنسي إيف لو غال حول الهندسة في الجزائر والوحدات المتخصصة في التخلص من المغارات (1960-1962).
نشر الجيش الفرنسي في ذلك الوقت مقالات تبجل هذه الوحدات، فقد احتفت الجريدة العسكرية “لو بليد Le bled” في مقال صدر في فيفري 1961 برجال المغارات التابعين للكتيبة 62 للهندسة الميدانية، مدعمًا بصور لرجال يرتدون بذلات واقية ويحملون مصباحًا ويعلقون في حزامهم مسدسا أوتوماتيكيًا، ويتناول التقرير بفخر عمليات تسميم المغارات بالغاز واستعمال الزرنيخ لجعلها غير مؤهلة للسكن، وقدموا هذه الممارسة التي تعتبر جريمة حرب، كتقنية متقدمة.
بنيت الذاكرة الجماعية للحرب بالنسبة للافاي في فرنسا في السنوات بين 1990 و2000 حول وجوه أخرى للعنف كالتعذيب وحالات الاختفاء، والإعدام الجماعي إلا أن الأسلحة الكيميائية ظلت دومًا على الهامش، كأن استعمالهم لها يلمس قضية محظورة أعمق حول حرب استعمارية استعملت خلالها فرنسا أدوات لم تكن لتتجرأ على استعمالها على أرضها. فيقول لافاي:” لا يحيط بالحرب الكيميائية سر عظيم بالنسبة للذين يودون التحقيق في الأمر “، ولكن السؤال الحقيقي: من يرغب في النظر مباشرة إلى وجه الحرب؟
أرشيف مفتوح، ضمير يقظ
تسبب عملية واحدة في مارس في موت أكثر من 116 مدنيًا، لكن من الصعب تقدير هول الحرب الكيميائية بدقة مادام جزء كبير من الأرشيف العسكري الفرنسي مغلقًا ومادام ليس هناك اعتراف بهذه الجرائم. ما تكشفه أبحاث لافاي والفيلم الوثائقي ليس مجرد جانب منسي من حرب التحرير، بل زاوية متجاهلة إلى اليوم في الذاكرة الاستعمارية الفرنسية، فرغم الأدلة المتراكمة من وثائق عسكرية، وشهادات المجندين، والسرد الجزائري، يعتبر الاعتراف السياسي والقضائي والإعلامي ضعيفًا، إن لم نقل غائبًا.
يضعنا هذا الحجب أمام المسألة الرئيسية التي تقول:”ماذا يعني مواجهة الحرب على حقيقتها عندما نعرض أوجه العنف مرارًا دون أن نناقشها؟ ما الذي تعنيه الحقيقة التاريخية إذا لم تفضِ إلى نقاش، أو تعويض، أو عدالة ؟ “
الأرض تشهد والناجون يروون
يجب العودة إلى الجثث، والأماكن والأصوات أمام هذا الصمت، ففي الجزائر، ذاكرة هذه الحرب الكيميائية لم تغلقها الوزارة، بل تعيش في القرى، والقصص الشعبية وتقاوم في الصمت المؤلم للناجين. مازال يتذكر نساء ورجال غار بن شطوح، وأحراش القبائل، وجبال الأوراس ووديان الشرق المغارات المحظور دخولها، والموت اختناقا، والحروق غير المفسرة، فقد تركت هذه الحرب آثارًا على الأجساد، على القصص، وعلى الأرض نفسها. هذه هي الأصوات التي يجب على الباحثين الجزائريين والفرنسيين الإنصات إليها، لا لجعلها جزء من الحكايات الشعبية، أو لاستغلالها، إنما لإعادة مكانتها في التأريخ الرسمي، فالحقيقة التاريخية لا تولد فقط من الوثائق المؤرشفة، بل تولد كذلك من قلب الذاكرة الجماعية التي نجت من فقدان الذاكرة، تُعتبر القصص المحكية، والصور الخاصة، والخرائط الذهنية، والعادات المحلية أرشيفًا حيًا يسير على الأقدام، قادرًا على دحض الرواية العسكرية الرسمية، وإكمالها، بل والتفوق عليها.
حان الوقت لإطلاق حملات واسعة في الجزائر لجمع الشهادات بخصوص هذه الحرب تحت الأرض، والذهاب إلى السكان وخلق أماكن آمنة للحديث، وتصوير الناجين ووضع خرائط خاصة بالمغارات التي سممت بالغاز، فيمكن أن يصبح التاريخ الشفوي منهج سياسي وإصلاحي. خلف كل مغارة مغلقة، هناك عائلة مفجوعة، ومكان محظور وذاكرة مخنوقة.
لا يحتاج هذا العمل إلى الباحثين فقط، بل يستدعي أيضًا تعبئة مشتركة للمجتمع المدني، والصحفيين، والشباب. يجب أن يكون عملًا جزائريًا، مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام التعاون الدولي، فالعمل الجماعي هو السبيل الوحيد للنبش في ذاكرة هذه الجرائم. والمعرفة وسيلة تمنح صوتًا للناجين، وتُسمي الموتى، وتسمح للأرض أيضًا بأن تقول حقيقتها.