جار التحميل ...

غادرتنا حسنة


حسنة البشاريّة (1950-2024).

تمسك حسنة البشّارية آلة القمبري، بين يديها، تصمت قليلاً، ثمّ تُشير إليها وتهمس: «هذا هو أبي». آلة القمبري الطّربية بأوتارها الثّلاثة، التي تصنع من جلد الماعز المُجفّف، هي التي أنقذتها من الحاجة، ملأت بطنها وبطون أمّها وأبنائها. سحبتها من الظلّ إلى النوّر، وجعلت منها امرأة تمشي بقدمين حافيتين ورأس مرفوع. تعزف نوتات، متقطّعة، يرتفع معها صوتها في مديح أولياء الله الصّالحين.

قضت حسنة أكثر من ثلاثين عاماً، وهي تجوب بلاد الرّمال، كما فعلت قبلها إيزابيل إيبرهارت، تقطع الوديان والواحات والبلدات المنسيّة، تغني في خيّام الوبر، أو على الإسمنت البارد، وتحثّ بنات جيلها على الاستمساك بعروة الفرح وكسر عصا الرّجل. ثم راحت تطوف بين مدن أوربية، في فرنسا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال، كي تعلّم النّاس، وساكنة الشّمال، موسيقى الدّيوان، التي حملها المستعبَدون الزّنج، في طريقهم من الصّحراء الكبرى إلى شمال أفريقيا، وأرادوها نشيداً لثورتهم الخامدة.

حسنة أو «حسنية» كما يُناديها البعض، تلك السّمراء، التي تلمع ابتسامتها كانعكاس ضوء في كوب من زجاج، لم تعش سوى بين الحدود، في نقاط التّقاطع، هي من أب مغربي وأمّ جزائرية، لها قدم هنا وأخرى هناك، هي من بشّار، المدينة التي يختلط فيها العابرون بالسّماسرة والدّراويش، لم تلج الحريم، الذي هيأه لها أجدادها.

«أبي كان يرفض أن اختلط بالرّجال» تقول. لكنها ستنقلب على وصيّة والدها، تخرج سالمة من مستنقع العار، تحمل القمبري، مثلما كان يفعل والدها وتزيل الجدار بين الجنسين، وتصير، بصبرها، وليّة صالحة، رغم أنّه لا قبّة لها في صحراء لطالما خذلتها وتنكّرت لها. «أنا زهْرية» تردف. أي صاحبة بركات وشفاعات الأجداد. «أضع يدي على مريض فيُشفى»، تلك هي خرافات موسيقى الدّيوان وسحرها، ذلك هو شغف مؤديها ومُريديها والسّابحين في أساطيرها؛ يلعبون بالنّار، ويطعنون أنفسهم بالسّكاكين، دون أن تنزف منهم قطرة دم، يعتقدون أن الملائكة أقرب إليهم من حبل الوريد، يستبسلون في استحضار الأنبياء والرّجال المخلصين، يتضرّعون إليهم كي يُزيحوا عن مستمعيهم غمامة الحاضر المتعثّر.

ترّبت بمحاذاة زاوية سيدي بن أبي زيّان، الولي الصّالح والمتعبّد الزّاهد، صاحب الطّريقة الصّوفية «الزّيانية». أسّست عام 1972 فرقة نسائية للدّيوان. نظرياً، هي أوّل فرقة نسائية في هذا اللون الموسيقي، الذي لطالما كان حكراً على الرّجال. بدأت بالغناء في الأعراس، ثم وصلت إلى المسارح. «كنت أغني كي أحصل على مال وأشتري دواءً لأمّي» تضيف حسنة. «أبداً لم أحصل في حياتي على مال وفير. ما أناله أقتسمه مع المحتاجين» تتمتم. إنّها شيخة الدّيوان الأوّلى، رمز من رموز تحرّر المرأة من عنق الزّجاجة الذّكورية.

أعادت حسنة البشّارية تأنيث موسيقى الدّيوان، بعدما ارتبطت، لقرون، باسم «المْعلّم»، أو المقدّم، وهي كلمة تُطلق على عازف القمبري، وقائد الفرقة، وكان لا بدّ أن يكون رجلاً، وأوجدت لها نظيراً: المعلمة، أضافت لغة أنثوية، على موسيقى ذكورية خشنة، وأزالت عنها قوقعة الصّلابة، والعتوّ، والضوضاء، التي غالباً ما خيّمت عليها.في هذه الثّورة النّاعمة، التي قادتها في نوع موسيقي شعبي، له مئات الآلاف من المحبين والمتابعين، ومن المجانين، في الجزائر والمغرب وتونس، وله جذور تمتدّ إلى أكثر من 12 بلدا فريقيا، بقيت حسنة وفية لروحها الأصلية، زاهدة في الحديث عن نفسها، لا تُبالغ في الثّناء عما فعلت.

وداعاً حسنة

نلتقي في مكان أفضل