جار التحميل ...

سجون ليبيا السرية التي تحول دون وصول المهاجرين إلى أوروبا (1/2)

تنشر "توالى"، بالشراكة مع مشروع "المحيط الخارج عن القانون"، الجزء الأول من تحقيق طويل أنجزه أيان أوربينا عن السجون السرية التي يُحتجز فيها المهاجرون غير النظاميون في ليبيا وعن المأساة التي يعيشها الأفارقة في البحر الأبيض المتوسط، منذ عشر سنوات، وعن الأطراف المتورطة فيها


يحف عدد من المستودعات المؤقتة جانِبَي الطريق السريع في غوط الشعال، كل المنطقة عبارة عن حارة تعمرها محلات تصليح السيارات وساحات الخردوات تقع غرب طرابلس، عاصمة ليبيا. أعيد فتح هذه المنطقة التي كانت من قبل مخزناً للأسمنت والخرسانة في جانفي 2021، وتم إعلاء أسوارها وإحاطتها باﻷسلاك الشائكة. يوجد رجال في بزات تمويه عسكرية سوداء وزرقاء ويحملون بنادق كالاشنيكوف، يحرسون حاوية زرقاء تستعمل بمثابة مكتب. وعلى الباب لافتة مكتوب “محكمة مقاضاة المهاجرين غير النظاميين”. كل هذا المرفق في الحقيقة هو سجن سري للمهاجرين، واسمه “المباني”.

الساعة الثالثة صباحا يوم 5 فيفري 2021. جلب رجال مسلحون أليو كاندي، مهاجر عمره 21 سنة من غينيا بيساو، قوي البنية وخجول، إلى هذا السجن. كان قد غادر بلده قبل عام ونصف لأن مزرعته أفلست، وقرر الالتحاق بإخوته في أوروبا. وبينما كان يقطع البحر المتوسط على متن قارب رفقة مئة وثلاثين مهاجراً آخرين، أوقفهم خفر سواحل ليبيا وأخذوهم إلى هذا السجن.

سجن المباني، طرابلس ليبيا، 2021، تصوير مشروع المحيط الخارج عن القانون

حُشِرت المجموعة داخل الزنزانة رقم 4، والتي كان فيها من قبل حوالي مئتي شخص آخر. كان هناك بالكاد مكان للجلوس وسط الأجساد المتحاشرة، وانزلق المهاجرون الجالسون على الأرض جانباً ليتفادوا أن يُداسوا. بقيت الأضواء المشعة في السقف مشتعلة طوال الليل، وكان شباك صغير في الباب عرضه حوالي 30 سم المصدر الوحيد للضوء الطبيعي. تعشش طيور هاربة من حظيرة مجاورة في العوارض الخشبية ويتساقط ريشها وفضلاتها من الأعلى. وخربش المهاجرون على الجدران كلمات تنم عن تصميمهم: “الجندي لا يتراجع أبدًا” ، و “نتقدم وأعيننا مغمضة”. زحف كاندي إلى زاوية بعيدة وبدأ الذعر ينتابه. سأل زميله في الزنزانة: “ماذا يمكننا أن نفعل؟”.

لم يعلم أحد في العالم، خارج “المباني”، أنه تم القبض على كاندي. لم يتم اتهامه بارتكاب جريمة ولم يُسمح له بالتحدث إلى محام. ولم يُمنح أي مؤشر عما إذا كان سيُسمَحُ له بالمغادرة. في الأيام الأولى من اعتقاله، بقي منعزلاً في الغالب، خاضعًا للروتين المحبط لهذا المكان. سيطرت كتائب الزنتان، إحدى أقوى الميليشيات في البلاد، على السجن وقام مسلحوها بدوريات في الأروقة. تم احتجاز حوالي 1500 مهاجر هناك، في ثماني زنزانات تم فصلهم حسب الجنس. كان هناك مرحاض واحد فقط لكل مائة شخص، واضطر كاندي في كثير من الأحيان إلى التبول في زجاجة ماء أو التبرز في الحمامات. ينام المهاجرون على أفرشة أرضية رقيقة موبوءة بالقمل والبراغيث؛ لم يكن هناك ما يكفي من الأفرشة للجميع، لذلك تناوبت فرق على النوم: واحدة أثناء النهار، والأخرى في الليل. تشاجر المعتقلون حول من ينام في الحمام، المكان الوحيد الذي فيه تهوية.  

كانوا يتريضون مرتين في اليوم، في صف واحد وسط الفناء، ومُنعوا من النظر إلى السماء أو التحدث أثناء المشي. يضع الحراس، مثل حراس حديقة حيوانات، أوعية طعام مشتركة على الأرض، ويتجمع المهاجرون في دوائر لتناول الطعام.

الحراس قُساة، يضربون السجناء الذين خالفوا الأوامر بأي شيء في متناولهم: مجرفة، خرطوم، سلك، غصن شجرة. قال لي توكام مارتن لوثر، وهو رجل أكبر سنًا جاء من الكاميرون، كان ينام على السجادة بجوار كاندي: “كانوا يضربون أي شخص دون سبب على الإطلاق”. وتكهن المعتقلون بأن الحراس ألقوا الذين ماتوا بالقرب من كومة طوب وأنقاض خلف أحد الجدران الخارجية للمجمّع. عرض الحراس على المهاجرين حريتهم مقابل رسم قدره ألفين وخمسمائة دينار ليبي – حوالي خمسمائة دولار. أثناء وجبات الطعام ، كانوا يتجولون حاملين الهاتف المحمول، ويسمحون للمحتجزين بالاتصال بأولياء الأمور الذين يمكنهم الدفع. لكن عائلة كاندي لم تكن قادرة على تحمل مثل هذه الفدية. قال لي لوثر، “إذا لم يكن لديك أي شخص تتصل به، فكل ما في وسعك فعله هو الجلوس.”

في السنوات الست الماضية، ، وبعد أن سئم من التكاليف المالية والسياسية لاستقبال المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، أنشأ الاتحاد الأوروبي نظامًا معقدًا وسعى لتطبيقه حتى يوقفهم قبل الوصول إلى شواطئ أوروبا. جهّز الاتحاد الأوروبي ودرّب خفر السواحل الليبي، وهي منظمة شبه عسكرية، للقيام بدوريات في البحر الأبيض المتوسط​​، وإفشال عمليات الإنقاذ الإنسانية، واعتقال المهاجرين.

يُحتجز بعدها المهاجرون إلى أجل غير مسمى في شبكة من السجون تديرها مليشيات في البلاد، والتي تكسب المال من سجنهم. في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، سُجن نحو ستة آلاف مهاجر، معظمهم في “المباني”. وقد وثّقت وكالات الإغاثة الدولية مجموعة من الانتهاكات: تعذيب المعتقلين بالصدمات الكهربائية واغتصاب الأطفال من قبل الحراس وابتزاز العائلات للحصول على فدية، وبيع الرجال والنساء للعمل القسري. قال لي صلاح المرغني، الذي شغل منصب وزير العدل الليبي من 2012 إلى 2014: “فكّر الاتحاد الأوروبي في خطته بعناية وخطّط لها منذ سنوات عديدة: خلق جهنم في ليبيا، بهدف ردع الناس عن التوجه إلى أوروبا”.

صورة أرسلها أليو كاندي لعائلته في غينيا بيساو، تصوير مشروع المحيط الخارج عن القانون

بعد ثلاثة أسابيع من وصول كاندي إلى “المباني”، وضعت مجموعة من المعتقلين خطة هروب. موسى كروما، مهاجر من ساحل العاج، وعدة أشخاص آخرين ، تبرزوا في سلة مهملات وتركوها في ركن الزنزانة لمدة يومين، حتى غمرت الرائحة الكريهة المكان. قال لي كروما: “كانت تلك المرة الأولى لي في السجن. كنت مرعوبا.” عندما فتح الحراس أبواب الزنازين، هاجمهم تسعة عشر مهاجرا. صعدوا فوق دورة مياه منخفضة السقف ، وقفزوا فوق جدار طوله خمسة أمتار، واختفوا في متاهة من الأزقة بالقرب من السجن. بالنسبة لأولئك الذين بقوا، كانت العواقب دموية. واستدعى الحراس التعزيزات التي أطلقت الرصاص على الزنازين ثم بدأوا في ضرب السجناء. وقال مهاجر لمنظمة العفو الدولية فيما بعد: “كان هناك رجل في عنبر اعتدوا عليه بالضرب بمسدس على رأسه ، حتى أغمي عليه وبدأ يرتجف. لم يستدعوا سيارة إسعاف لتأتي إليه تلك الليلة. كان لا يزال يتنفس ، لكنه لم يكن قادرًا على الكلام. لا أعرف ماذا حدث له. لا أعرف ماذا فعل “.

في الأسابيع التي تلت ذلك، حاول كاندي الابتعاد عن المشاكل والتشبث بإشاعة مفعمة بالأمل سمعها: أن الحراس يخططون لإطلاق سراح المهاجرين في زنزانته بمناسبة شهر رمضان، أي بعد تسعة أسابيع. كتب لوثر في يوميات كان يداوم على تدوينها: “إنها معجزة من عند الرب. أتمنى أن تستمر نعمته في حماية جميع المهاجرين في جميع أنحاء العالم وخاصة المهاجرين في ليبيا”.

*

بدأت الظاهرة، التي سُمِّيت لاحقا أزمة المهاجرين حوالي عام 2010، عندما بدأ المهاجرون الفارين من الحروب في الشرق الأوسط، وحركات التمرد في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وآثار تغير المناخ في التدفق إلى أوروبا. يتوقع البنك الدولي أن يؤدي الجفاف وفشل المحاصيل والتصحر في الخمسين عامًا القادمة إلى نزوح مائة وخمسين مليون شخص آخرين، معظمهم من جنوب الكرة الأرضية، مما سيزيد الهجرة إلى أوروبا.

في ذروة الأزمة، في عام 2015، وصل مليون مهاجر إلى أوروبا من الشرق الأوسط وأفريقيا في عام واحد. وقعت المأساة الكبرى الأولى في عام 2013، عندما اشتعلت النيران في قارب يحمل أكثر من خمسمائة إريتري وأدت إلى غرقه في البحر الأبيض المتوسط، على بعد أقل من كيلومترين اثنين من سواحل إيطاليا، مما أسفر عن مقتل ثلاثمائة وستين شخصًا. كانت الغريزة الأولى السائدة في أوروبا هي الرحمة. “نستطيع فعل ذلك!” قالت أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، ووعدت بمقاربة متساهلة للهجرة، مما مكنها أن تصبح شخصية مجلة “تايم” لعام 2015.

باخرة أطباء بلا حدود، جوان 2021، تصوير مشروع المحيط الخارج عن القانون

تبعد شواطئ إيطاليا بضع مئات من الكيلومترات عن شمال إفريقيا. في أوائل عام 2014، أصبح ماتيو رينزي، البالغ من العمر 39 عامًا، أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد. كان من المتوقع أن يهيمن رينزي، وهو ليبرالي وسطي تحبه كاميرات التلفزيون، على غرار بيل كلينتون، على سياسة البلاد خلال العقد المقبل. ومثل ميركل، كان ملتزمًا بالترحيب بالمهاجرين، قائلاً: “عندما تتجاهل أوروبا رؤية الجثث، لا تستحق أن تطلق على نفسها اسم أوروبا المتحضرة”. لقد كان وراء برنامج بحث وإنقاذ طموح يسمى عملية Mare Nostrum، أي “بحرنا”، والتي وفرت الممر الآمن لنحو مائة وخمسين ألف مهاجر وقدمت لهم المساندة القانونية للمساعدة في طلبات لجوئهم. وفقًا لإيما بونينو، المفوضة الأوروبية السابقة للشؤون الإنسانية، في عام 2014، عرضت حكومة رينزي استقبال كل مهاجر قادم عبر ليبيا.

مع استمرار تزايد الأعداد، تحول تباين اﻷراء في أوروبا إلى نشاز. جلب المهاجرون معهم متطلبات الرعاية الطبية والوظائف والتعليم، مما أدى إلى إجهاد الموارد. “يشكل هذا معضلة هائلة.” أخبرني جيمس هولفيلد، خبير الهجرة في المعهد الفرنسي للدراسات المتقدمة، “يتعين على الدول أن تجد طريقة لتأمين حدودها دون تدمير جوهر الدولة الليبرالية.”

شرعت الأحزاب السياسية القومية، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا والجبهة الوطنية الفرنسية، في استغلال الوضع لتعزيز كراهية الأجانب. في عام 2015، هاجم رجال من شمال إفريقيا شابات في مدينة كولونيا بألمانيا، مما أثار القلق؛ في العام التالي، دهس طالب لجوء من تونس بواسطة شاحنة رواد سوق عيد الميلاد في برلين، مما أسفر عن مقتل 12 شخصًا.

كلفت عملية “بحرنا” الأولية لرينزي حوالي مائة وخمسة عشر مليون يورو، ولم تستطع إيطاليا، التي كانت تكافح لتفادي ركودها الثالث في ست سنوات، الحفاظ على هذا الجهد. تعثرت الجهود في إيطاليا واليونان لإعادة توطين المهاجرين: لم تقبل بولندا والمجر، وكلاهما يديرهما زعماء يمين متطرف، أي مهاجرين على الإطلاق. تحدث مسؤولون نمساويون عن بناء جدار على حدودها مع إيطاليا. سخر السياسيون اليمينيون المتشددون في إيطاليا من رينزي وشجبوه، وارتفعت شعبيتهم في الاستطلاعات بشكل كبير. في ديسمبر 2016 ، استقال رينزي، وتراجع حزبه في النهاية عن سياساته. وتراجع هو أيضًا عن كرمه الأولي. قال: “نحن بحاجة إلى تحرير أنفسنا من الشعور بالذنب. ليس لدينا واجب أخلاقي للترحيب في إيطاليا بالأشخاص الذين هم أسوأ حالًا منا.”

وخلال السنوات التالية، اتخذت أوروبا نهجا مختلفا بقيادة ماركو مينيتي، أحد مقربي رينزي ، الذي أصبح وزيرا للداخلية الإيطالية. كان مينيتي، وهو نجل نجل جنرال سابق، صريحًا بشأن سوء تقدير رينزي. وقال “لم نرد على شعورين كانا قويين للغاية.. الغضب والخوف”. بإلحاح من مينيتي، توقفت إيطاليا عن إجراء عمليات البحث والإنقاذ على مسافة تزيد عن خمسين كيلومترا من شواطئها. وبدأ الاتحاد الأوروبي في رفض القوارب الإنسانية التي تحمل المهاجرين الذين تم إنقاذهم من الهبوط في موانئها. حتى أن إيطاليا حاكمت قباطنتها بتهمة المساعدة في الاتجار بالبشر. وسرعان ما أصبح مينيتي معروفا بـ”وزير الخوف”.

في عام 2015، ساعد مينيتي الاتحاد الأوروبي على صياغة برنامج يسمى صندوق الطوارئ الاستئماني لأفريقيا، والذي أنفق منذ ذلك الحين ما يقرب من ستة مليارات دولار. يقدم المؤيدون البرنامج على أنه يسهل التنمية، مشيرين إلى أنه يدفع تكاليف الإغاثة من كوفيد-19 في السودان، والتدريب على الوظائف الخضراء في غانا. لكن الكثير من عمله ينطوي على الضغط على الدول الأفريقية لتبني قيود هجرة أكثر صرامة وتمويل الوكالات التي تطبق هذه القيود، لوقف المهاجرين قبل وصولهم إلى أوروبا.

ينقل البرنامج، وبفعالية، حدود أوروبا إلى الحافة الشمالية لإفريقيا ويُجنِّد الحكومات الأفريقية لمراقبتها. في عام 2018، سأل أعضاء البرلمان الأوروبي المفوضية الأوروبية عن “قوائم التسوق” المزعومة التي أرسلها مسؤولون من النيجر يطلبون هدايا بالسيارات والطائرات والمروحيات مقابل دعمهم لتبني السياسات المناهضة للهجرة. كما ذهبت الأموال إلى الأجهزة القمعية للدول.

في إثيوبيا، سمح البرنامج للاتحاد الأوروبي بمشاركة البيانات الشخصية للمواطنين الإثيوبيين مع جهاز المخابرات في الدولة، الذي له تاريخ في اعتقال المتظاهرين ومعاملتهم بوحشية. وفي السودان، تم استخدام الأموال لإنشاء مركز استخبارات للشرطة السرية في البلاد، والتي استخدمت أيضًا الموارد لقمع المظاهرات المحلية. يتم صرف الأموال وفقًا لتقدير الفرع التنفيذي للاتحاد الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، ولا يخضع للتدقيق من قبل البرلمان. (صرح لي متحدث باسم الصندوق الاستئماني: “تهدف برامجنا إلى إنقاذ الأرواح وحماية المحتاجين ومكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين”).

تطلع مينيتي إلى أن تصبح ليبيا الشريك الأساسي لأوروبا في قمع الهجرة إلى أوروبا. في عام 2011، تمت الإطاحة بحاكم البلاد لوقت طويل، معمر القذافي، وقتل في تمرد أشعله الربيع العربي ودعمه غزو بقيادة الولايات المتحدة؛ منذ ذلك الحين، أصبحت البلاد دولة فاشلة.

في عام 2017، سافر مينيتي إلى طرابلس وأبرم صفقات مع الحكومة الجديدة في البلاد وأقوى ميليشياتها. وقع الاتحاد الأوروبي وإيطاليا وليبيا مذكرة تفاهم تؤكد “التصميم الحازم على التعاون في تحديد الحلول العاجلة لقضية المهاجرين السريين الذين يعبرون ليبيا للوصول إلى أوروبا عن طريق البحر”. في السنوات الست الماضية، وجه الصندوق الاستئماني نصف مليار دولار للهجوم الليبي على الهجرة. أخبرني المرغني أن الهدف من البرنامج واضح: “أن يجعل من ليبيا الطرف الشرير. أن تصير ليبيا قناعًا لسياساتهم بينما يقول البشر الطيبون في أوروبا إنهم يعرضون الأموال للمساعدة في جعل هذا النظام الجهنمي أكثر أمانًا”.

يقول مينيتي إن الخوف الأوروبي من الهجرة غير المضبوطة هو “شعور مشروع – شعور يتعين على الديمقراطية أن تنصت له”. أدت سياساته إلى انخفاض حاد في أعداد المهاجرين. في النصف الأول من هذا العام، وصل أقل من واحد وعشرين ألف شخص إلى أوروبا عن طريق البحر الأبيض المتوسط.

قال مينيتي للصحافة في عام 2017، “ما فعلته إيطاليا في ليبيا هو نموذج للتعامل مع تدفقات المهاجرين دون إقامة حدود أو حواجز من الأسلاك الشائكة”. (ترك مينيتي الحكومة منذ ذلك الحين وهو يرأس الآن مؤسسة Med-Or، وهي مؤسسة فكرية للصناعات الدفاعية ؛ ورفض التعليق.) وأشاد الجناح اليميني الإيطالي ، الذي ساعد على إقالة رينزي، بعمل مينيتي. قال ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة الشمالية الإيطالي، وهو حزب قومي: “عندما اقترحنا مثل هذه الإجراءات، وصفنا بالعنصرية. الآن، أخيرًا، يبدو أن الجميع يفهم أننا كنا على حق.”

*

نشأ كاندي في مزرعة بالقرب من قرية سينتشان ديمبا غيرا، في غينيا بيساو. لا يوجد بها تغطية للهاتف المحمول ولا طرق معبدة ولا سباكة ولا كهرباء. كان يعيش في منزل من الطين، نصفه مصبوغ بالأصفر ونصفه اﻵخر أزرق، مع زوجته هافا، وابنيهما الصغيرين. كان لا يهدأ في القرية: كان يستمع إلى موسيقيين أجانب ويتبع أندية كرة القدم الأوروبية. كان يتحدث الإنجليزية والفرنسية، وكان يعلم نفسه البرتغالية، على أمل أن يعيش يومًا ما في البرتغال. قال لي جاكاريا، أحد أشقاء كاندي الثلاثة، “كان أليو فتى محبوبًا للغاية – لم يورط نفسه في أي مشكلة أبدا. كان يعمل بجد. احترمه الناس”.

هافا، زوجة أليو كاندي، وأولادهم: كجار وبوبكر وأمارو. ماي 2021، تصوير مشروع المحيط الخارج عن القانون بغينيا بيساو

أنتجت مزرعة كاندي المنيهوت واليام والكاجو – وهو محصول يمثل 90 في المائة من صادرات البلاد. لكن الطقس بدأ في التحول، على الأرجح نتيجة لتغير المناخ. قال جاكاريا: “لم نعد نشعر بالبرد خلال موسم البرد، والحرارة تأتي في وقت أبكر مما ينبغي”. غادرت الأمطار الغزيرة المزرعة التي لا يمكن الوصول إليها إلا بزورق معظم أوقات السنة؛ صارت فترات الجفاف تدوم ضعف المدة التي كانت عليها زمن الجيل السابق. وهزلت أبقار كاندي الأربع ولم تعد تدرّ الحليب. تضاعف البعوض الذي ينشر المرض. عندما أصيب أحد أبناء كاندي بالملاريا، استغرقت الرحلة إلى المستشفى يومًا، وكاد يموت.

كان كاندي، وهو مسلم تقي، قلقا من أنه لم يقم بواجبه الديني في إعالة أسرته. قال لي بوبو، أحد إخوة كاندي، “لقد شعر بالذنب والحسد”. كان جاكاريا قد هاجر إلى إسبانيا، ودينباس، شقيق آخر، إلى إيطاليا. أرسل كلاهما أموالًا وصورًا لمطاعم فاخرة. قال لي سامبا، والد كاندي، “كل من يهاجر إلى الخارج يجلب البركة لأهله”.

كانت زوجة كاندي حاملًا في شهرها الثامن، لكن عائلته شجعته على الذهاب إلى أوروبا أيضًا، ووعدته برعاية أطفاله. قالت والدته أميناتا: “ذهب كل أبناء جيله إلى الخارج ونجحوا، فلم لا ينجح هو؟” في صباح يوم 13 سبتمبر 2019، انطلق كاندي إلى أوروبا حاملاً رواية رومانسية وسروالين وقميصًا ومذكرات جلدية وستمائة يورو. قال كاندي لزوجته في ذلك الصباح: “لا أعرف كم سيستغرق ذلك من الوقت. لكني أحبك، وسأعود.”

شق كاندي طريقه عبر وسط إفريقيا، مستوقفاً حافلات أو متخفيا في سيارات حتى وصل إلى أغاديز، في النيجر، التي كانت تسمى بوابة الصحراء. تاريخيًا ، كانت حدود دول وسط إفريقيا دائما مفتوحة، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي. لكن في عام 2016، استخدم مسؤولون في الاتحاد الأوروبي الصندوق الاستئماني للمساعدة في وضع قانون جديد في النيجر يسمى القانون 36، ودفعوا للسلطات لتطبيق القانون الجديد: بين عشية وضحاها، صار سائقو الحافلات والمرشدين، الذين كانوا لسنوات عديدة ينقلون المهاجرين إلى الشمال على طول طريق تصطف على جانبيه آبار المياه، يعاملون كمتاجرين بالبشر وصدرت عليهم أحكام بالسجن لمدة ثلاثين عامًا.

والدا أليو كاندي يحملان صورته وعائلته الصغيرة، غينيا بيسار، ماي 2021، تصوير مشروع المحيط الخارج عن القانون

أُجبر المهاجرون على التفكير في طرق أكثر خطورة. في عام 2019، خرج كاندي وستة أشخاص آخرين عبر الصحراء، وكانوا ينامون أحيانًا على الرمال على جانب الطريق. قال كاندي لجاكاريا عبر الهاتف: “الحرارة والغبار ، الوضع فظيع هنا”.

في جانفي، وصل إلى المغرب، وحاول دفع ثمن عبور قارب إلى إسبانيا، وعلم أن السعر كان ثلاثة آلاف يورو. حثه جاكاريا على العودة، لكن كاندي قال، “أنت عملت بجد عندما كنت في أوروبا. لقد أرسلت المال إلى العائلة. حان دوري الآن. عندما أصل إلى هناك، يمكنك العودة إلى المزرعة والاستراحة وسأقوم بالعمل”.

سمع أنه في ليبيا يمكنه حجز قارب أرخص لإيطاليا. وصل إلى طرابلس في ديسمبر 2020، واستأجر غرفة في قرقارش، وهو حي قصديري للمهاجرين. كان عمه الأكبر، ديمبا بالدي، خياط يبلغ من العمر أربعين عامًا، يعيش في ليبيا بلا أوراق رسمية منذ سنوات، متهربًا من السلطات. وجد بالدي عملاً لكاندي يتمثل في صباغة المنازل وحثه، دون جدوى، على التخلي عن خطته لعبور البحر الأبيض المتوسط. قال بالدي، “قلت له ، تلك هي طريق الموت”.

*

سافرت في ماي الفارط إلى طرابلس للتحقيق حول نظام احتجاز المهاجرين هناك. كنت قد أنشأت للتو منظمة غير ربحية تسمى  The Outlaw Ocean Project (مشروع المحيط الخارج عن القانون)، والتي تقدم تقارير حول حقوق الإنسان والقضايا البيئية في البحر، وأحضرت معي فريقًا بحثيًا، بما في ذلك مصور ومخرج.

في طرابلس، تنتشر المكاتب والفنادق والمباني السكنية والمدارس على الساحل، نصف مبنية ومهجورة. يقف رجال مسلحون يرتدون زيا عسكريا عند كل تقاطع. لا يُسمح تقريبًا بدخول أي صحفي غربي إلى ليبيا، ولكن بمساعدة مجموعة مساعدات دولية، حصلنا على تأشيرات دخول. بعد وصولي بوقت قصير، أعطيت فريقي أجهزة تتبع وشجعتهم على وضع نسخ من جوازات سفرهم داخل أحذيتهم. تم وضعنا في فندق بالقرب من وسط المدينة وكُلف فريق أمني صغير بحمايتنا.

لم تكن ليبيا دائمًا غير مضيافة للمهاجرين. في منتصف التسعينيات، اعتنق القذافي الوحدة الإفريقية، وشجع أفارقة جنوب الصحراء على القدوم والعمل في حقول النفط في البلاد. لكن بدءًا من سنوات 2000، وبطلب من أوروبا جزئيا، بدأ القذافي في قمع الهجرة. في عام 2007، أنشأ أنظمة تأشيرة منفصلة للعرب والأفارقة. في عام 2008 ، وقع “معاهدة صداقة” مع سيلفيو برلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي، التي ألزمته بمساعدة إيطاليا في الحد من الهجرة غير النظامية.

استخدم الأمر أحيانًا كورقة مساومة. حيث هدد، في عام 2010 ، مسؤولي الاتحاد الأوروبي إن هم لم يرسلوا ملايين الدولارات من أموال المساعدات، فإنه  “سيجعل أوروبا سوداء”. بعد الإطاحة به، انزلقت ليبيا إلى حالة من الفوضى. اليوم، هناك حكومتان تتنافسان على الشرعية: حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة والحكومة المؤقتة، بدعم من روسيا ومن يسمي نفسه بالجيش الوطني الليبي. كلاهما يعتمد على تحالفات متغيرة ومزدرية مع الميليشيات المسلحة التي لها ولاءات قبلية وتتحكم في أجزاء كبيرة من البلاد. في ظل هذا الاضطراب، أصبحت الشواطئ النائية في البلاد نقط انطلاق مشهورة للمهاجرين.

اسم خفر السواحل الليبي يجعلها تبدو وكأنها منظمة عسكرية رسمية، ولكن ليس لديها قيادة موحدة. وهي تتألف من مجموعة متنوعة من الدوريات المحلية التي تتهمها الأمم المتحدة بأن لها صلات بميليشيات. (يسميها العاملون في المجال الإنساني أحيانًا “ما يسمى بخفر السواحل الليبي”.) قال مينيتي للصحافة، عن الأيام الأولى للمشروع، “عندما قلنا أنه يتعين علينا إعادة تأهيل خفر السواحل الليبي، بدا الأمر وكأنه حلم يقظة”.

ومنذ ذلك الحين ، أنفق الصندوق الاستئماني للاتحاد الأوروبي لأفريقيا عشرات الملايين من الدولارات لتحويل خفر السواحل إلى قوة هائلة بالوكالة. من حيث المبدأ، من المفترض أن يقوم خفر السواحل بحماية الخط الساحلي للبلد من التهديدات الأجنبية. أما في حالة خفر السواحل الليبي فهو موجه للداخل لحماية أوروبا من المهاجرين.

في عام 2018، ساعدت الحكومة الإيطالية، بمباركة الاتحاد الأوروبي، خفر السواحل في الحصول على موافقة من الأمم المتحدة لتوسيع نطاق سلطتها القضائية لما يقرب من مائة وستين كيلومترً قبالة الساحل الليبي – وسط المياه الدولية، وفي منتصف الطريق إلى الشواطئ الإيطالية. وفر الاتحاد الاوروبي ستة زوارق سريعة من الألياف الزجاجية، وثلاثين سيارة تويوتا لاند كروزر، وعشر حاويات شحن لاستخدامها كمكاتب، وأجهزة راديو، وهواتف تعمل بالأقمار الصناعية، وقوارب منفوخة، وخمسمائة زي موحد.

ويتكفل أيضا بتكلفة مركز القيادة يوفر التدريب للضباط. في حفل أقيم في أكتوبر الماضي، أزال مسؤولون في الاتحاد الأوروبي والقادة الليبيون الستار عن بواخر من نوع “قواطع”، بيضاء مصنوعة من الفولاذ والألياف الزجاجية والكيفلار، والتي تم بناؤها في إيطاليا وتحديثها في تونس بأموال الصندوق الاستئماني. صرح خوسيه ساباديل، سفير الاتحاد الأوروبي في ليبيا الآن: “كان تجديد هاتين السفينتين مثالًا جيدا عن التعاون البناء بين الاتحاد الأوروبي، وبلد عضو في الاتحاد الأوروبي، إيطاليا، وليبيا”.

قد تكون المساعدة الأكثر قيمة هي تلك القادمة من وكالة الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي، فرونتكس ، التي تأسست عام 2004 لحراسة حدود أوروبا مع روسيا. في عام 2015، بدأت فرونتكس في قيادة “جهد منظم للقبض على السفن وتدميرها”، تلك التي تنقل المهاجرين عبر البحر.

اليوم، لديها ميزانية تزيد عن نصف مليار يورو، والخدمة النظامية الخاصة بها والتي يمكنها نشرها في عمليات خارج حدود الاتحاد الأوروبي. تحافظ الوكالة على مراقبة شبه مستمرة للبحر الأبيض المتوسط ​​من خلال طائرات بدون طيار وطائرات مستأجرة خاصة. عندما تكتشف سفينة مهاجرين، فإنها ترسل الصور ومعلومات الموقع إلى الشركاء في المنطقة. قال لي متحدث باسم فرونتكس إن الوكالة “لم تشارك قط في أي تعاون مباشر مع السلطات الليبية”. لكن التحقيق الذي أجراه تحالف من وسائل الإعلام الأوروبية ، بما في ذلك Lighthouse-Reports و Der Spiegel و Libération و ARD، وثق عشرين حالة  تم اعتراض المهاجرين فيها من قبل خفر السواحل مباشرة بعد قيام فرونتكس بمراقبة قواربهم.

عثر التحقيق على أدلة على أن فرونتكس ترسل أحيانًا مواقع قوارب المهاجرين مباشرة إلى خفر السواحل. في محادثة على واتساب في ماي الماضي. على سبيل المثال، كتبت فرونتكس إلى شخص يعرّف عن نفسه بأنه “قائد خفر السواحل الليبي”، قائلة، “صباح الخير يا سيدي – لدينا قارب بجرف البحر في [الإحداثيات]. إنهم يسكبون الماء. يرجى الرد على هذه الرسالة”. أرسل لي المسؤولون مؤخرًا نتائج طلب فتح السجلات، والتي تشير إلى أنه في الفترة من 1 إلى 5 فيفري تقريبًا، حوالي المدة التي كان فيها كاندي في البحر، تبادلت الوكالة سبعة وثلاثين رسالة بريد إلكتروني مع خفر السواحل الليبي. (رفضت فرونتكس الإفصاح عن محتوى رسائل البريد الإلكتروني ، قائلة إنها ستشكل خطراً على “سلامة المهاجرين”).

أخبرني مسؤول كبير في فرونتكس، طلب عدم ذكر اسمه خوفًا من العواقب، أن الوكالة ترسل أيضًا صور المراقبة إلى السلطات الإيطالية، التي يمكنها بعد ذلك إخطار خفر السواحل بأنفسهم. (لم يستجب خفر السواحل الإيطالي ومركز تنسيق الإنقاذ البحري في روما، الوكالات التي تتولى المراقبة ، لطلبات التعليق). يرى الخبراء القانونيون أن هذه الإجراءات تنتهك القوانين الدولية ضد الإعادة القسرية، وضد إعادة المهاجرين إلى أماكن غير آمنة. وأكد مسؤول فرونتكس بأنه حتى هذه الطريقة “غير المباشرة” لا تبطل مسؤولية الوكالة: “أنت تقدم تلك المعلومات. أنت لا تنفذ الإجراء ، لكن المعلومات هي التي تؤدي إلى الإعادة القسرية “. وحث المسؤول مرارا مديريه على التوقف عن المساعدة في جهود إعادة المهاجرين إلى ليبيا. قال المسؤول: “لم يجدي كلامي نفعا، ورفضوا تقبّله.” (أخبرني المتحدث باسم فرونتكس ، “خلال أي بحث وإنقاذ محتمل، تكون أولوية فرونتكس هي إنقاذ الأرواح.”)

يسابق خفر السواحل الليبي السفن الإنسانية للوصول إلى الزوارق، في محاولة للقبض على المهاجرين قبل إحضارهم إلى أوروبا. في بعض الأحيان، تطلق النيران على قوارب الإنقاذ أو قوارب المهاجرين. منذ جانفي 2016 وبحسب المنظمة الدولية للهجرة اعترض خفر السواحل طريق أكثر من تسعين ألف مهاجر. في عام 2017 ، استجاب قارب من مجموعة الإغاثة Sea-Watch لنداءات استغاثة من زورق مهاجرين غرق. عندما نشرت Sea-Watch زورقين منفوخين لتنفيذ عمليات الإنقاذ بأمان، وصل “قاطع” خفر السواحل الليبي المسمى “رأس جدير”، ودفعت الأمواج التي أثارها الزورقين إلى الانقلاب.

Migrants rescued off the coast of Libya sleep aboard the Geo Barents, a rescue vessel operated by Doctors Without Borders on June 14, 2021. (Ed Ou/The Outlaw Ocean Project)

أخرجوا المهاجرين من الماء قبل أن يتمكنوا من ركوب قارب المنظمة غير الحكومية، وضربوهم أثناء صعودهم على متنها. أخبرني يوهانس باير، رئيس بعثة Sea-Watch ، “كان لدينا شعور بأن كل ما يهم خفر السواحل هو إعادة أكبر عدد ممكن من الأشخاص إلى ليبيا، دون الاهتمام بغرق الناس”. قفز أحد المهاجرين من فوق القارب وتشبث بـ “رأس جدير” أثناء تسارعه بعيدًا، وجره عبر الماء. وقتل ما لا يقل عن عشرين شخصًا أثناء عملية الاعتراض، من بينهم طفل يبلغ من العمر عامين. في فيفري الماضي، أطلقت سفينة تابعة لخفر السواحل النار وأغرقت زورق مهاجرين وغرق خمسة أشخاص، بينما قام القادة بالتصوير بهواتفهم المحمولة.

يبدو أن خفر السواحل الليبي يعملون دون التفكير في العقاب. في أكتوبر 2020، أُضيف عبد الرحمن الميلاد، قائد وحدة خفر السواحل في الزاوية، إلى قائمة عقوبات مجلس الأمن الدولي واعتقلته السلطات الليبية، بتهمة “التورط المباشر في غرق قوارب المهاجرين باستخدام الأسلحة النارية.” وكان الميلاد قد حضر اجتماعات مع السلطات الإيطالية في روما وصقلية، في عام 2017، لطلب المزيد من الأموال من الصندوق الاستئماني.

في أفريل الماضي، أُطلق سراحه بحجة عدم كفاية الأدلة. غالبًا ما أشار خفر السواحل، الذي رفض التعليق على هذا المقال، إلى نجاحه في الحد من الهجرة إلى أوروبا، وجادل بأن السفن الإنسانية تعيق جهوده لمكافحة الاتجار غير المشروع بالبشر. “لماذا تعلن المنظمات غير الحكومية الحرب علينا؟” قال متحدث باسم خفر السواحل عام 2017 لوسائل إعلام إيطالية. “يجب أن يتعاونوا معنا بدلاً من ذلك إذا كانوا يريدون فعلاً العمل لفائدة المهاجرين”. قال المتحدث باسم الصندوق الاستئماني إن الاتحاد الأوروبي لا يقدم المال لخفر السواحل – فقط التدريب والمعدات – وأن هدفه هو “إنقاذ حياة أولئك الذين يقومون برحلات خطرة عن طريق البحر أو البر”.

في ماي الماضي، قضى مصور فيديو من فريقي، إد أو، خمسة أسابيع على متن سفينة أطباء بلا حدود كانت تحاول إنقاذ المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط. حددت المنظمة زوارق المهاجرين بمساعدة طائرات الرادار والمتطوعين ، لكن في معظم الحالات ، سبقهم خفر السواحل هناك واعتقلوا المهاجرين. من حين لآخر، رأى عمال الإغاثة طائرة فرونتكس بدون طيار – هيرون IAI، قادرة على العمل بشكل مستمر لمدة تصل إلى 45 ساعة – تحلق في سماء المنطقة. كانت سفينتهم حريصة على إجراء عمليات الإنقاذ في المياه الدولية فقط، لكن تهديدات خفر السواحل صدرت عبر الراديو.

قال أحد الضباط: “ابتعد عن هدفنا”. وهدد آخر، “لا تدخلوا المياه الليبية. وإلا فسأتعامل معك وألجأ إلى إجراءات أخرى”. في بعض الأحيان، نجحت عملية إنقاذ، وتحدث عدد من المهاجرين السودانيين بالدموع عما رأوه في ليبيا. قال أحدهم إنه تعرض للضرب والتعذيب على يد خفر السواحل عندما تم القبض عليه في رحلة سابقة. وشاهد آخر صديقين قتلا بالرصاص في مركز احتجاز ليبي. وثالث كان يرتدي قميصا منزلي الصنع كتب عليه “اللعنة على ليبيا”.

على الساعة العاشرة يوم 3 فيفري 2021، اقتاد مهرب كاندي وأكثر من مائة آخرين إلى الشاطئ الليبي، ودفعهم على زورق مطاطي منفوخ. بدأ بعض المهاجرين المتحمسين للمغادرة بالغناء. بعد ساعتين، دخل القارب المياه الدولية. تمدّد كاندي على جانب الزورق وانتابه الأمل. أخبر الآخرين على متن الزورق بأنه بدأ في التفكير في القيام بالرحلة مرة أخرى قريبًا مع زوجته وأطفاله.

كان المهرب قد كلف ثلاثة مهاجرين بالمسؤولية. قام “ملّاح” بتوجيه المسار باستخدام بوصلة. وأدار “قبطان” المحرك وتعامل بالهاتف المتصّل بالأقمار الصناعية؛ بمجرد أن أصبحوا بعيدين بما يكفي عن ليبيا، كان من المفترض أن يتصل بالمنظمة الإنسانية  Alarm Phone، ويطلب الإنقاذ. حافظ “القائد” على النظام وتأكد من عدم لمس أحد للقابس الذي سيؤدي، في حالة سحبه، إلى إفراغ الزورق من الهواء.

سرعان ما أصبح البحر هائجا ، مما أدى إلى غثيان الجميع، وتحويل المياه المتراكمة عند أقدامهم إلى خليط من القيء والبراز وأغلفة الحلوى وفتات الخبز. حاول العديد من المهاجرين إفراغ القارب باستخدام زجاجات مياه بلاستيكية مقطعة إلى نصفين. اندلع شجار ، وهدد أحدهم بقطع الطوافة بسكين قبل أن تتم السيطرة عليه. يتذكر محمد ديفيد سوماهورو، الذي أصبح كاندي صديقًا له على الزورق، “بدأ الجميع ينادون بإلههم: واحد لله، والآخر يدعو يسوع، والآخر يدعو هذا والآخر ذاك. بدأت النساء في البكاء ، وبمجرد أن رأوا الناس في حالة من الذعر، بدأ الأطفال في البكاء أيضًا”.

هدأت المياه عند الفجر، وقرر المهاجرون أنهم بعيدون بما فيه الكفاية عن ليبيا ، وطلبوا المساعدة من هاتف الإنذار. أخبرهم أحدهم أن هناك سفينة تجارية ليست بعيدة، مما أثار فرحة المهاجرين. وهتفوا: “بوسا، حر، بوسا، حر” ، مستخدمين كلمة تعني النصر. التفت كاندي إلى سوماهورو، وعيناه تبرقان، وقال، “إن شاء الله سننجو! إيطاليا!” ولكن عندما وصلت السفينة التجارية، أعلن القبطان أنه ليس لديه قوارب نجاة وابتعد بسرعة.

كان قارب كاندي حينها على بعد مائة كيلومتر من إيطاليا، بعيدًا عن المياه الليبية ولكن لا يزال ضمن الولاية القضائية الموسعة التي ساعدت أوروبا في هندستها لخفر السواحل. حوالي الساعة 5 مساءً يوم 4 فيفري، لاحظ المهاجرون وجود طائرة تحلق فوقهم لمدة 15 دقيقة، ثم حلقت بعيدًا.

تُظهر بيانات من ADS-B Exchange، وهي منظمة تتعقب حركة الطيران، أن الطائرة كانت من طراز Eagle1، وهي طائرة مراقبة بيضاء من طراز Beech King Air 350 استأجرتها فرونتكس. (رفضت الوكالة التعليق على دورها في الاعتراض). بعد حوالي ثلاث ساعات ، ظهر قارب في الأفق. قال سوماهورو: “كلما اقتربنا ، اتضّحت الرؤية – ورأينا الخطوط السوداء والخضراء للعلم”. بدأ الجميع في البكاء وأمسكوا رؤوسهم قائلين “خرا، إنه ليبي”.

كان القارب، وهو سفينة دورية فيتوريا P350، إحدى “القواطع” التي كشف عنها الاتحاد الأوروبي الستار في أكتوبر. صَدَمَ خفر السواحل زورق المهاجرين ثلاث مرات، ثم أمروهم بالصعود على متن القاطع. “تحرك!” صرخ الضباط. ضرب أحدهم بعقب بندقيته عددا من المهاجرين. وجلدهم آخر بحبل. أُعيد المهاجرون إلى البر، وحُمِلوا في حافلات وشاحنات، واقتيدوا إلى “المباني”.

(يُتبع…)


تنشر “توالى” هذا التحقيق بالتعاون مع The Outlaw Ocean Project

ترجمة “توالى”.