جار التحميل ...

الحرّاقة المراهقون: سبعةٌ وثامنهم المغامرة

سبعة مراهقين جزائريين وصلوا إلى جزيرة "إيبيزا" الإسبانية، نهاية الأسبوع الماضي، أكبرهم عمرا لا يجاوز سنه 17 سنة، أما أصغرهم فحده 14 سنة. سرقوا قارب نزهة وانطلقوا من تامنفوست (الواقعة بماتيفو، وهو الرأس الشرقي لخليج الجزائر)، مستعينين بتطبيقات الملاحة المتوفرة في الهاتف وبوصلة، في رحلة دامت تسع ساعات.


حدث من قبل أن خرج مراهقون كُثُر “حراقة” لكنهم دومًا ما كانوا ضمن جمعٍ كبير من شباب بالغين، سواء من أبناء أحيائهم أو ممن عبروا البحر معا في “بوطي”. أما هذه الحادثة، فإن صحت رواية المراهقين” فهي سابقة، مما يطرح الكثير من الأسئلة ويجعل الأجوبة مُلحّة، والحلول ضرورة مستعجلة.

غالبًا ما يكون الحرّاقة أرقامًا، خاصةً إذا ما فُقِدوا في عرض البحر أو ضاع خبرهم، لكن هذه المرّة الأسماء موجودة، وحسابات أغلب المراهقين صارت معروفة للجميع، وهم: هيثم وعدلان وحمزة وأنيس وآدم وعمر.. وأويس، وهو الذي أطلق بثًا مباشرًا على تيكتوك وانتشرت فيديوهاته من إسبانيا.

تفاعل كبير بين التعاطف والاستهجان

انتشرت فيديوهات توثيقية كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بثّها هؤلاء المراهقون أنفسهم تظهر ظروف مخاطرتهم هذه. أهازيج وأغان تغنى في الملاعب: “ماقدرتش نعيش يا خاوتي الشنوي راح للغربة ومايوليش”، ضحكات جريئة، لدرجة أن المشهد لو عرض على شخص لا يعرف السياق لقال أن هؤلاء في رحلة سياحية على سواحل الجزائر، ولكن واقع الحالة كان أكبر.

في اليوم الموالي لوصولهم، خرج أحد المراهقين الحراقة في بث مباشر على تيكتوك، يروي قصتهم: تخطيطهم لها ودوافع خروجهم ومخاطر المغامرة، كأنه يروي “تحويسة” من “لا بيروز” (تامنفوست) إلى شوارع حسيبة أو البريد المركزي، كما يفعل عادة أقرانه، وكما تجري العادة في الأحياء والقرى، يلتقي الأصحاب حين وقت فراغهم، فتتصدر فكرة “الهملة” دون معرفة غرض محدّد ثم ينطلقون، المهم أن لا ينهش الملل وقتهم.

يقول أويس مجيبا على أسئلة ألاف المتابعين، الشاتمين إياه بالسراق، أو “المهنئين” الفضوليين الذين تماهوا مع قصته: “رأينا أولاد حينا يهاجرون هكذا، حز فينا الأمر كيف يذهبون هم ولا نذهب نحن، ثم ذهبت عند صديقي، قلت له ‘نديروها’ فوافقني وبدأنا رحلة تعبئة الوقود مباشرة”.

وتولّد عن هذه الحادثة جدلٌ واسع، بين متعاطف مع هؤلاء المراهقين الذين يعتنقون سردية عدمية تقضي بأن البلد لن يصلح حاله وأن “الميزيرية” هي قدرهم المحتوم إن عاشوا هنا، وبين الذين استهجنوا فعل سرقتهم لقارب وتفاخرهم بمخاطرتهم المجنونة وتشجيع الغير على هذا الفعل الخطير.

ويرد على من استهجنوا فعل السرقة الذي أقر به “خليهم يهدرو، خلينهالهم قنطة، قنطناهم خو لبلاد كامل تقنطت”. هكذا بكل “رجلة” ونبرة تحد غرة. 

وهنا نطرح تساؤلًا آخر: كيف يمكن لمراهقين أغرار حديثي العهد في الحياة، أن يتحدثو بكل ثقة عن المعاناة و”الميزيرية” رغم أن منهم من هو ميسور الحال؟  ثم هل حقا كانت الوقائع التي حكاها هؤلاء المراهقون حقيقية؟ 

رحلة التخطيط حتى الانطلاق

بالعادة، يرفض عمال محطات الوقود ملء الوقود لمن يأتيهم دون مركبة، خوفا من التهريب ومن استعماله في “الحرقة”، ولكن في المناطق الساحلية قد يحدث أن يتم ذلك عرفيا أو عن عادة. وحسب تصريح “المراهق الحراق” فإنهم استعملوا دراجة نارية مرارا وتكرارا، حتى شك فيهم بعض عمال التعبئة أنهم يجهزونها للحرقة.

بالمقابل قد يحدث أيضا أن يملأ عمال التعبئة خزانات القوارب الصغيرة أو ما يعرف ب “النوريسة” “la nourrice “، خاصة إذا اعتاد هؤلاء المراهقين الصغار وهم “البحارة” رغم صغر سنهم -حسب ما هو معلوم من صورٍ سابقة لهم انتشرت على شبكات التواصل- تعبئتها لأغراض الصيد.

أما قانونيا، فلا يملأ للصياد دون “تصريح ملء الوقود” وهو تصريح يعطى لمن يملك سفن صيد كبيرة أو وثيقة تبين امتلاك قارب صيد أو ترفيه، أو دفتر بحار. وهنا يتحقّق الشرط الأول لهذه المغامرة: ملأ أكثر من 400 لتر من الوقود، حسب أقوالهم.

على حين غفلة من الجميع

يرد أويس على الإشاعات التي تقول بأنهم استأجروا القارب من أجل فعلتهم: “نحن لم نستأجر أي قارب بل سرقناه”. لكن تفصيلا مثل هذا يحيل إلى آخر مهم، قارب ترفيهي من نوع  zodiac  بطول خمسة أو 6 أمتار، لا يرسو في الشواطئ بل في الموانئ، لأن قعره عميق وغير موائم للاحتكاك مع الرمال كما هو حال القوارب الخفيفة المستعملة في الصيد. ثم إن قاربا بمحرك قوته 85 حصان غالي الثمن سعره يعادل سعر سيارة ويشتغل بمفتاح، لا يترك عادة في الموانئ دون حراسة أو دون إجراء يلجأ إليه أصحاب هذه القوارب الغالية، فهم عادة يعمدون إلى نزع قطع منه تمنع اشتغاله خوفا من محاولات السرقة، وهذا التفصيل يرسخ إمكانية وجود متعاون معهم سهل لهم الأمر. خاصة وأن “المراهق الحراق ” قال في أحد بثوثه المباشرة الكثيرة: “جا السيد عطانا لفلوكة وخرجنا بيها”. ولم تتضح هوية صاحب القارب المسروق، ولم يظهر أي أحد عوائل هؤلاء المراهقين للحديث إلى حدّ الآن.

 ولم تتضح الصورة من أي مكان انطلق المراهقون، أَمِنَ الميناء أم من أحد الشواطئ. خاصة أن النمط الشائع في مثل هذه الحوادث المتكررة، هو أن يلجأ الحراقة إلى الشواطئ الهامشية أو السواحل الصخرية التي تقل فيها الحركة ليلا حتى ينطلقوا منها، خاصة أن الموانئ في المنطقة بها حراسة دائما وكثيرة الحركة.

“كمل فالرجلة”

يقول الرايس ناصر، ربان من الدرجة التاسعة وموجه سفن، في تصريحٍ لتوالى: “ليس من البديهة الإبحار كما فعل هؤلاء حتى لو استعملوا التطبيقات وعرفوا كيف تُضبَطُ البوصلة، لأن عوامل أخرى تدخل في الحسبان، البحر ليس الطريق السريع، في البحر تيارات متضاربة وجارفة قد تقاوم حركة القوارب مهما كانت قوتها الدافعة إذا كانت عكس اتجاهها. وإن قاربا مزودا بقوة 85 حصانا، قد تصل سرعته إلى 80 كلم، حسب الحمولة والرياح وهيجان البحر”.

في هذه النقطة، كان أويس يتحدث في بثه المباشر شارحا كيف فعل ما اعتبره فعلا بطوليا: “استعملنا تطبيقا يسمى navionics، وحددنا وجهة البوصلة صوب الشمال الغربي، بدرجات بين 320 و350″. في طريقهم إلى إسبانيا يقول: “تعطل محرك القارب فنهض حمزة، وهو واحد من جماعتنا فأصلحه حتى ‘هاج المحرك’ وتقوّى”. ومن المعلوم أنه ليس من السهل إصلاح محرك دون معرفة تقنية قبلية.

ومال أويس بكل صبيانية إلى تصوير المغامرة الخطيرة التي أقدم عليها مع جماعته، وكأنها مجرد نزهة، مما جعل الآلاف يُعلّقون إعجابا بالمغامرة والجرأة.

فلو صح أن اجتمعت في هؤلاء المراهقين، رغم صغر سنهم، ألفة البحر لكونهم أبناء صيادين ولكونهم لا يهابونه، زِد على هذا معرفة تقنية سطحية بالتطبيقات والميكانيك، وسبق التخطيط، فإن كل هذه الظروف لا تعني بالضرورة حتمية نجاح المغامرة، لأن للحظ دورا كبيرا أيضا.

ويروي أويس أنه حين تعطل المحرك وقد تجاوزوا المياه الحدودية الجزائرية، خاف بعضهم وترددوا في المواصلة، إلا أنه قال لهم “الذي يريد الرجوع فليسبح، لربما تجده البحرية الساحل الجزائري مازال قريبا من هنا، لكن في الأخير واحد ‘ما روندا’ “. ليضيف قائلا: “حنا كامل رجالة. لما انطلقنا كملنا فيها، وحرقنا روحنا بلي قلعنا محال نرجعو”.

لحظة الكشف والحقيقة

ووثّق المراهقون لحظة وصولهم إلى جزيرة إيبيزا الإسبانية بفيديو يُظهِرهم فرحين، في حين تلغب أغنية راي في الخلفية. يقول “المراهق الحراق”: “لما رسوت بالقارب في الشاطئ، بدأنا المشي على الشاطئ فقاطعتنا الشرطة هناك، فناديت عليهم ” policia moi argelia  “ ثم أتى عدد كبير منهم حتى ظننت أنهم سيردوننا إلى البلد، كنت على وشك الهروب”. 

ووضع الأمن الإسباني المراهقين السبعة في مركز احتجاز القصر أين أعطيت لهم ملابس جديدة ووفر لهم المبيت والطعام، كما يجري العمل عادة بالقانون الإسباني عند احتجاز مهاجرين غير شرعيين بإسبانيا، لتبدأ رحلة المراهقين في الغربة بالحجز.

هل الفقر حقا ما يدفع الشباب “للحرقة” ؟

لم يتوقف أويس خلال بثوثه المباشرة وفي حديثه مع آلاف المتفاعلين معه، عن الشكوى من المعاناة و”الميزيرية”، معبرا أن فعلته كانت جراء حتمية المعاناة إذ قال: “لو كانت مليحة في البلاد ما نروحش”. إلا أن كثرة حالات الهجرة غير الشرعية، أبرزت أن فئة منهم لا يختارون هذا الفعل عن فقر فقط أو معاناة من نقص الفرص، كما هو حال كثيرين منهم، بل تكون لدوافع أخرى تحتاج فهما.

ويرجع الباحث في علم الاجتماع ناصر جابي، في حلقة من برنامج “صون بروتوكول” على “فيزيون تي في” نهاية الشهر الماضي، أنّ سبب هجرة هذه الفئة إلى رفضهم لنموذج العيش الموجود هنا إذ يقول: “ليس النجاح الاقتصادي وحده الذي يهمهم، هم يريدون نموذج عيش آخر، هذا الدافع حتى وإن كان مغلوطا فهو الذي يحركهم، يبقى أن أغلبهم يكتشف واقعًا آخر عند وصوله هناك”.

“أصبحت الحرقة مشروعا عائلية، في الماضي كانت العائلة لا تعرف أن ابنها سيهاجر. أما اليوم فأصبحت العائلة كلها تهاجر أو تمول هجرة ابنها، بمعنى أن نزعة مغادرة البلد وعدم القبول بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ليست بدافع الفقر فقط. لأن البوطي الذي فيه 20 شخصا مقابل 100 مليون للواحد، كان من الممكن أن يبنوا بها مشاريع اقتصادية لهم”.

ويسترسل جابي قائلا “لا يريد أن يبقى في الجزائر لأنه يعرف أن وضعه الاقتصادي لن يتحسن” ويضيف: ” ‘الحرقة’ ليست موجودة فقط بالنسبة لشباب الأمي والفقير بل هي موجودة بالنسبة للكبير والمتعلم والطلبة”.  

أما المؤرخ والباحث حسني قيطوني فعلق حول واقعة المراهقين الحراقة، في منشورٍ على صفحته بالفيسبوك، قائلا: “ما سعى هؤلاء الأطفال وراءه في إسبانيا هو وهمٌ لا وجود له. فأوروبا تسوق صورة مثالية عن نفسها، غير أن الواقع اليومي يكشف عكس ذلك. سرعان ما سيكتشفون، بعد زوال دهشتهم الأولى، ما يواجهه كل مهاجر: معاناة مادية ومعنوية تشترك فيها جميع الفئات المقهورة عبر العالم. والحقيقة التي ينبغي استيعابها هي أن السعادة لا تُصنع إلا حيث تُبنى بالصبر والإرادة، وبالحب والمثابرة “.

وأضاف قيطوني: “ما فرّ منه هؤلاء الشباب، وما يرفضونه، هو قبل كل شيء عجزُ الجيل السابق عن تأمين مستقبل كريم لهم. ومن خلال هذا الإخفاق يحكمون علينا ويدينوننا. ومهما كانت إرادة السلطات قوية، فلن تحقق شيئاً ما لم تتوجه إلى المجتمع وتستنهضه في مشروع جماعي للصالح العام. فبناء الأوطان لا يتم إلا بالجهد المشترك، وهذا الجهد لا يمكن أن يولد ويزدهر إلا في ظل الثقة والاحترام المتبادل”.

في انتظار معرفة المزيد حول مصير الحراقة السبعة، ولكن أيضًا حول خلفياتهم وعائلاتهم، تبقى مغامرتهم هذه حلقةً جديدة في مسلسل الحرقة المستمرّ منذ أزيد من عِقدين.