*تعيد “توالى” إصدار النص الذي نشره الكاتب والباحث في العلوم السياسية الفلسطيني محمد جميل على صفحته بالفيسبوك، وهذا بإذن منه، في محاولة للتقرب مما يحصل في فلسطين اليوم وفهم كيف تتحوّل غزة -تدريجيا- من قطاع محاصر إلى مركز قرار للفلسطينيين تحت واقع الاحتلال الإسرائيلي.
——–
كما هو الحال عند كل تصعيد عسكري في قطاع غزة، تثار مسألة استخدام الفلسطينيين في غزة للسلاح والجدوى منها، وهذا الجدال مفهوم وله حيثيته، ولكنه لا يزال يقف عند منطقه الذي يقف خلفه منذ عشرين عاما متجاهلا كل التغيرات التي طرأت على المواجهة، وغزة، والسلاح نفسه.
هذا السلاح بات حقيقة موجودة وتضاعف وازداد قوة وبات مركز الفعل السياسي الفلسطيني المادي الوحيد المتحرر من نطاق التحكم والهيمنة الإسرائيلية. وببطء شديد وبتكلفة عالية، كان من الممكن تفادي جزء كبير منها، اكتسب المزيد من أسباب الشرعية، ومن يملكه أصبح يتقن لعبة امتلاكه وأيضا اللعب على الميزان الحساس لاستخدامه، وإن كان ذلك قد تحقق بعد أخطاء هائلة وتكاليف باهظة، لا يزال يرتكب بعضها.
مقاربة الأمر تستدعي الوعي بمسألتين أساسيتين:
الأولى، حتى الآن ليست غزة القاعدة السياسية المركزية الفعلية للفلسطينيين. في السابق كان الشتات هو من يقوم بهذا الدور إلى أن تمت تصفيته بالحديد والنار. وعند قيام السلطة في غزة ظلت مركزيتها اسمية ومبتورة بفعل أنها محاصرة ومعزولة، والتي عادت وفقدتها بالكامل بعد الانقسام عام 2007. أما المراكز «الأليفة» – حتى الآن – في رام الله والقدس فقد انتعشت مستفيدة من تواطؤ تاريخي من نوع ما، قائم بين النخب هناك والواقع الاستعماري الصهيوني، تترجمت منافعه على شكل: حرية حركة، رؤوس أموال، انفتاح واتصال عميق وواسع مع المراكز الغربية والرعاية الأوروبية والأمريكية، وذلك في مقابل الرضوخ للاحتلال أو الالتزام بقواعد المناهضة المنضبطة له.
الغزيون هم إحدى أفقر التجمعات الفلسطينية، وفي غالبيتهم هم من اللاجئين، ومنذ النكبة شهدوا أهوالا وعذابات تفوق فظاعتها أي وصف. ولم يكن بالإمكان في ظل الظروف الاستعمارية التي حكمتها إنتاج نخب ومأسسة مجال سياسي في أي لحظة من اللحظات.
وما الاستغراق في خطاب الأبارتهايد (التمييز العنصري)، بشكله وطرق مقاربته الحالية -الذي تقع غزة والشتات بالحد الأدنى خارج خريطته السياسية والقانونية الفعلية- سوى أحد تعبيرات الانضباط هذه، كونه برنامج عمل تتشبث بصيغته الحالية «عصابات» التضامن الدولي والخطاب الحقوقي من نخب فلسطينية وغربية لأنه يستجيب للمحددات التي يضعها الممول الغربي الذي يضم دوائر يهودية ليبرالية راعية لمشروع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، ولكونه مساحة اشتباك آمنة للعاملين فيه، وأيضا أمواله مجزية ومريحة، من دون أن يلتفت احد إلى تداعياته العميقة الضارة على المدى المتوسط والطويل على الفلسطينيين وفضائهم السياسي بخاصة الداخلي منه.
والمسألة الثانية، أن الغزيين وقوامهم اليوم يزيد عن المليونين، هم إحدى أفقر التجمعات الفلسطينية، وفي غالبيتهم هم من اللاجئين، ومنذ النكبة شهدوا أهوالا وعذابات تفوق فظاعتها أي وصف. ولم يكن بالإمكان في ظل الظروف الاستعمارية التي حكمتها تطوير وبناء هياكل اجتماعية راسخة وثابتة، وإنتاج نخب ومأسسة مجال سياسي في أي لحظة من اللحظات.
ولكن، ورغم ذلك، استطاع أهلها الفقراء والمنكوبين والمعزولين عن العالم، وذوي البنية التعليمية المحدودة التي يستخدمها البعض اليوم حجة عليهم، أن يراكموا من أسباب القوة خلال السنوات الماضية ما يمكن اعتباره الرصيد المادي الحقيقي الرئيسي الذي يمتلكه الفلسطينيون اليوم في أي مكان. وهو رصيد قوامه عشرات آلاف المقاتلين بينهم ما لا يقل عن خمسة آلاف مقاتل هم في عِداد الفرق العسكرية الأفضل في الشرق الأوسط، مزودين بترسانة راكموها بجهد وصبر أسطوري، ومُظَلَّلِين بدعم مؤسسة تنظيمية وحكومية راسخة، والأهم من هذا هو شوط مهم قطعوه في استنساخ نسخة غزاوية لـ”عقيدة الضاحية” تحمي وتساند هذا كله الذي أصبح أمرا واقعا لا آفاق لأي فعل سياسي فلسطيني يخاصمه أو يتحرك من دونه.
بالمعنى العملي والتنظيمي أنت في حاجة إلى المنظومة الصاروخية لتشغيل البنية التحتية والعددية لمنظومة المقاومة ورفع كفائتها إلى الحد الذي يمكنها عند اللزوم من اللجوء إلى الوسائل الأخرى وضمان فعاليته.
ليست كل محتويات الترسانة هذه واستخداماتها موضع إجماع عند الفلسطينيين، ولكنك عندما تبني منظومة مقاومة مسلحة لا تستطيع ضبط جميع ديناميكياتها ومسارات بنائها واختيار عناصرها، خاصة في مراحلها التأسيسية. بمعنى آخر، يمكن تفهّم تحفظ البعض على منظومة الصواريخ برمتها وليس فقط استخدامها، فالأنفاق مثلا أكثر فعالية، والقاذفات المتطورة نتائجها مرغوبة وأكثر دقة. ولكن، وإلى جانب أنك لست في وارد أخذ التصعيد إلى مستوى ردود الفعل التي تستجلبها هذه الوسائل وحقيقة أن استبعاد الصواريخ ينطوي على قرار استراتيجي بتحييد العمق الإسرائيلي من المواجهة، فأنت وبالمعنى العملي والتنظيمي تحتاج المنظومة الصاروخية لتشغيل البنية التحتية والعددية لمنظومة المقاومة ورفع كفائتها إلى الحد الذي يمكنها عند اللزوم من اللجوء إلى الوسائل الأخرى وضمان فعاليتها.
فصواريخ الكورنيت والنفق وقوات النخبة التي أنهت إمكانية الغزو البري لغزة لم تتوافر ممكناتها بين ليلة وضحاها، بل كنتيجة لمسار تراكمي مُعمَّد بعذابات وتضحيات لا يحيط بها الخيال.
إسرائيل ومن معها، استثمروا طويلا في إقصاء غزة عن مجال الاشتباك السياسي مع الاحتلال ومفاعيله، غزة لم تستكن، سلاحها كان استجابتها، ولكن هذه الاستجابة/المقاومة حركتها ثقيلة ومكلفة ولا تروق لكثيرين.
ولكن وأنت تمتلك هذا الرصيد والإرادة والتصميم لا يمكن أن تتخلى عن دورك المركزي والقيادي، فغزة اليوم هي رأس حربة الثورة الفلسطينية، والحديث عن تنحي غزة جانبا حتى لا يُحرِج التدخل الغزي الفج والصاخب «مدنية» و«حضارية» المواجهات التي تخوضها التجمعات الأخرى لو تم، فهو في شقه الأخلاقي ليس سوى تخلٍ عن المسؤولية الوطنية حتى وغزة تعلم الأثمان التي ستتكبدها، وسياسيا هو تنازل عن حق غزة بأن تحدد هي شكل المواجهة وأجنداتها لأنها الأقرب إلى خطر التصفية الفيزيائية وليس السياسية فحسب. ناهيك عن أن مطلبا كهذا ما هو إلا فرضية رياضة ذهنية لا علاقة لها بالسياسة الحقيقية والطريقة التي تعمل بها. فلم يكن لمواجهات القدس أن تسفر فعليا عما هو أكثر مما فعلته صواريخ غزة، عندما انطلقت صفارات الإنذار هناك وهرع المستوطنون الصهاينة للاختباء بعد أن كانوا قد احتلوا حائط المبكى، ليعيد المتظاهرون الفلسطينيون في مشهد مجيد الانتشار مكانهم منتشين بمشاعر الفخر والاعتزاز التي اجتاحتهم بعد إحساسهم للمرة الأولى منذ 1948 أن للبيت فدائي فلسطيني يحميه.
أخيرا، هذه المواجهة وما سبقها، برهان جديد، على أن الفلسطينيين لم وربما لن تتوافر لديهم الإمكانية لبناء ما يمكن أن يناظر «العقد الاجتماعي» الذي يعرّفهم كجماعة وطنية منتشرة داخل بلادهم وخارجها ويعرّف علاقتهم ببعضهم، ويجمعهم على برنامج تحرري موحد بعيدا عن عنوان «الكفاح المسلح» بمعناه العام والشاعري وتراثه الثقافي بما هو أكثر حتى من العملي؛ العالم أصلا من حولهم لم يسمح لهم ولم يشجعهم على الاعتقاد بوجود خيارات مجدية أكثر منه تحفظ لهم حقوقهم وحتى كرامتهم كأفراد.
“الوطنيون الفلسطينيون الديمقراطيون ملزمون بالعودة للالتصاق بجماهير شعبهم والتروي في التعاطي مع خياراتهم الثقافية والقيمية حتى المتخلفة منها، خاصة وأنها نتاج ظروف استعمارية لم يكن لهم يد فيها، على قاعدة العمل على تصحيح انحرافاتها بالالتحام المعيشي والنضالي معهم.”
إدراك هذه الحقيقة خطوة أولى في بناء استراتيجية التحرير الجماعي، يليها حشد الجهد الوطني من أجل إعادة بناء شكل وخطاب هذا الخيار وعقلنته وتوظيفه بما يحقق أقصى استفادة منه ويخفّض تكاليفه إلى أدنى حد ممكن.
مسؤولية بناء هذا الجهد تقع بالدرجة الأولى على عاتق حركة حماس بصفتها الوريث القادم لقيادة المشروع التحرري الفلسطيني، ما يستدعي منها الشروع ببناء مناخات الثقة المتبادلة بينها وبين شركائها في الوطن والتكاتف معهم من أجل بناء مؤسسة وطنية راسخة وديمقراطية، تشكل القاعدة المركزية في الفعل السياسي الفلسطيني، يجد الجميع متسعا لهم ولإسهاماتهم فيها.
المسؤولية الثانية، هي مسؤولية الوطنيين الفلسطينيين الديمقراطيين الملزمين بالعودة للالتصاق بجماهير شعبهم والتروي في التعاطي مع خياراتهم الثقافية والقيمية حتى المتخلفة منها، خاصة وأنها نتاج ظروف استعمارية لم يكن لهم يد فيها، على قاعدة العمل على تصحيح انحرافاتها بالالتحام المعيشي والنضالي معهم، ومقاربة علاقتهم بالأجسام التنظيمية التي حملت مشروع الثورة خلال نصف القرن الماضي باعتبارهم ورثة ومتممين لمشروعهم، لا كبديل انقلابي على تراث كفاحي شرّف الفلسطينيين والعرب وكل الأحرار في العالم على امتداد عقود من النضال والفداء.