التقيتُ شريف شرفي في نانتير (غرب باريس)، وهي المدينة التي كبر وناضل فيها منذ نهاية الخمسينات. يقترب شريف من سن الثمانين، شعره رمادي متوسط الطول بقامة منتصبة، يلبسُ سُترة تشونغاي زرقاء ويتحدّث بصوتٍ عميق وبكلمات يختارها بعناية. زرته مع مجموعة مع الباحثين والمناضلين، الذين دعتهم مجلة “ذا فينومبليست” المهمتة بسياسات العمران، في جولة للتعرف على الأحزمة الشعبية المحيطة بباريس وتاريخ الانتفاضات بها، سمعته يتحدّث، في مكتبة “الغربة مونامور”، التي احتضنت لقاءنا معه، عن جزء من مسيرته النضالية وبالخصوص، ذكرياته كطفل عن 17 أكتوبر 1961، ثم تطرّق باقتضاب لتجربته في الثورة الزراعية، بالجزائر، بداية السبعينات، هو الذي ترك البلاد طفلا مع عائلته للحاق بوالده. شدّني الموضوع وطلبت منه موعدًا للحديث بشكلٍ مطوّل عن سيرته وأهم المحطات فيها. من الجزائر إلى النضال لأجل القضية الفلسطينية، مرورا بلبنان وسوريا، ثم –دائمًا- العودة إلى نانتير التي كانت قَدَرْ وحِصْن وقَبْر مئات الآلاف من المهاجرين الجزائريين. فضّلنا أن نترك البورتريه بصيغة المُتكلّم، للاحتفاظ بشيء من سرد ولغة شريف شرفي وهو يحكي سيرته وتاريخه الشخصي الذي تقاطع أكثر من مرّة مع التاريخ العام للجزائر والمنطقة.
حرب التحرير في عيون طفل في المهجر
جئت إلى فرنسا في عمر 10 سنوات. كان ذلك في خريف سنة 58 أو في بداية سنة 59. أربع سنوات من حرب التحرير عشتهم في الجزائر والأربع المتبقية عشتهم في نانتير، في عشوائيات نانتير بدايةً، وهنا في الحي المسمّى “لا فولي” كانت توجد أغلبية جزائرية، ربما أزيد من 10 آلاف ساكن.
على كل حال، هكذا اكتشفت فرنسا. وصلتُ مع أمي وإخوتي للالتحاق بالوالد. وبقينا حتى 1960 في العشوائيات. كنا نسكن في برّاكة، وفي الأرض التي سكنّاها كانت توجد مزرعة فِطر، ما يمكن أن أسميه “أغوار”، وذات يوم حصلت عاصفة، فإذا بالبراكات المبنية في ذلك المكان تسقط.
أخذونا للسكن في مكانٍ مؤقت، لمدة ستة أشهر، بباريس في الدائرة 13. وبعد ذلك أخذنا سكنًا، بفضل عمل الوالد في “تيليميكانيك إلكتريك”، مع كل عائلتنا الكبيرة، بكاريار- سو- بواسي. أبناء عمومتنا ظلوا هناك –إلى اليوم- ولكننا عدنا سنة 1963 هناك إلى نانتير، على بُعد 200 متر من “لا فولي”. سكننا في حي “مارسولن بارتولو” جنب جامعة نانتير، وعشنا هنا حتى وفاة والدتي سنة 2014.
كبرت هنا إذا خلال الستينات، بعد الاستقلال. وكان عندي خالي عبد الله الذي كان فدائيا، مع جبهة التحرير، هنا في فرنسا. اعتقله الفرنسيون قبل الاستقلال، سنة 1960. خلال مهمة قادته إلى ستراسبورغ، وفي قطار العودة نحو باريس التي كان سيأخذ منها قطارا نحو مارسيليا، سمع من الراكبين أن الشرطة تبحث عن “فلاقة”، وهو فهم أنهم يبحثون عنه، فقفز من القطار ولكنه أصيب إصابة بالغة ولم يستطع المشي وهنا قبضوا عليه. وسُجِن بمدينة أفينيون. ولكن أطلق سراحه بعد الاستقلال. وكان يزورنا هنا، خلال طفولتي ومراهقتي، وهو من منحني أولى مفاتيح فهم حرب التحرير. حكى لي التاريخ. وهناك كلمة كان يرددها دائمًا، وأنا طِفل: “احنا استقلّينا… لكن استقلالنا ناقص، ونستقلو مية بالمية نهار تستقل فلسطين.”

خالي عبد الله توفي منذ أزيد من عشرين عامًا، الآن.
وكان عندي خال آخر، كان منخرطًا في النضال. كان قد قضى خدمته العسكرية في فرنسا، في البحرية بل كان على متن غواصةٍ حتى. وعندما انتهى من خدمته هنا، قرّر البقاء معنا وقتها. جاء من قريتنا بمستغانم، أنا أصلي من هناك، من قرية صغيرة اسمها “ستيديا”.
ومن بين الناس الذين جاؤوا من هناك، عمّي بغدادي الذي كان قائدًا في شبكة جبهة التحرير بفرنسا. خالي هذا كان اسمه قادّة. توفي سنة 2009، 27 مارس، وأتذكر أننا زرنا الجزائر مع بعض سنة أو سنتين قبل وفاته. وفي القرية التي سكنها هنا، وهي قرية صغيرة كل سكانها لا يتجاوزون 400 نسمة وكان متزوّجًا بفرنسية ويعمل دهّانًا، هو قال أنه يريد أن يُدفن هنا. دفنناه في مقبرة قريته، ورئيس البلدية منحنا مربعًا صغيرا كمقبرة للمسلمين. وفي يوم جنازته جاء أكثر من 1000 شخص.
بعد وفاته زُرت عمّي بغدادي عمّيش وسألته عن علاقته بخالي، عمّا كانا يفعلانه مع بعض خلال الثورة، نظر نحوي وقال: “ما نقدرش نجاوبك… هذوك صوالحنا…” بقيتُ صامتا ولم أُكرّر سؤالي، تحدّثنا في أشياء أخرى، وعندما هممتُ بالمغادرة، قال لي: “اسمع، لو كان خالك ما كانش معايا، كانوا يقتلوني مئة مرّة”. وهنا فهمتُ أن خالي كان حارسًا شخصيًا لعمّي بغدادي.
إذا، هكذا عرفتُ تاريخ حرب التحرير، من أخوالي ووالدتي التي كانت مناضلةً أيضًا. أتذكر أنّي كنت أرافقها، خلال الحرب، إلى باريس، لأنّها لم تكن تقرأ الفرنسية، فكنت أقرأ لها أسماء محطات المترو. فيما كانت هي تحمل حقائب وتوصلها من عنوانٍ لآخر. وهذه كانت أولى دروس الحركة الوطنية التي تلقيتها.
5 جويلية في نانتير كان يومًا مجنونا. نانتير كانت عبارة عن حفلة كبيرة. لكنني، تخيّل، فوتّت كل هذا. لأنه سنة 1962 كنا في كاريار سو بواسي، وكلّفني والداي بحراسة إخوتي في البيت حتى يأتيان هنا ويشاركان في المأدبة الكبيرة. ونفس الشيء حصلها قبلها في 17 أكتوبر 1962، لأني أكبر إخوتي، كنت مكلّفا بحراسة الإخوة. لكني رأيت بعدها الاحتفالات في الصور والأرشيف.

الالتحاق بالمصنع
عندما عدنا إلى نانتير كنت في الابتدائية، كانت آخر سنة لي في تلك المرحلة، أخذتُ الشهادة واجتزتُ امتحانات الرابعة تجاري والرابعة صناعي، نجحت في الاثنين، ولكن عند الدخول المدرسي وجدتُ نفسي في معهد للتعليم التقني، وهذا كان مصير أغلب أولاد المهاجرين الذي تُقرّره الحكومة الفرنسية. يعني لن تواصل تعليمك العام العادي، بل ستدرس اختصاصا يفتح لك باب المصنع.
المهم… واصلت العيش هنا حتى سن 19 عامًا، ولكني كنت قد بدأت العمل في مصنعٍ ب منذ سنة 16، كنا نصنع أدوات للميكانيك العامة. وذات يوم، خرجت مع الزملاء في استراحة الغداء. ولك أن تتخيل غدائنا وقتها، تشتري نصف خبزة من عند الخباز وعلبة سردين وتصنع لنفسك سندويتش والسلام.
كان يومًا جميلا وأدرنا أن نستمتع بالشمس، وهنا حصل لي أمرٌ عجيب. كنا نمشي عائدين نحو المصنع عندما خبطت برجلي شيئًا على الأرض، نظرتُ فوجدت كتابًا، حملته وقرأت اسم المؤلّف: جاك بريفير. فتحته فوقعت مباشرةً على قصيدة، تنتهي بـ: “قولي لي إذا يا رفيقتي الشمس ألا ترين / أنّ من الحماقة / أن أهِب ربّ عملٍ / يومًا كهذا؟” دخلتُ إلى المصنع وتوجّهتُ نحو مديري، طلبت منه الحساب. كانوا يدفعون لنا كل أسبوعين. عُدت إلى المنزل ووضعتُ الظرف على الطاولة.

لجنة فلسطين وحركة العمال العرب
بعدها بدأت بارتياد دار الشباب بنانتير، وهنا تفتّحت عينيّ على العديد من الأشياء والنشاطات. وصلتُ حتى أني سيرت دار الشباب خلال فترة العطلة لأني المدير أخذ أجازته. وكانت لنا عادة وهي أن نلتقي في سوق نانتير، وذات أحد، كنا في سنة 1967، كان عمري 19 سنة. التقيتُ بصديقٍ كان يوزّع منشورات على الناس في السوق. كنا في الصيف، وكان ذلك بعد حرب الستة أيام، قرأتُ المنشور إلى آخره حتى وصلت إلى الإمضاء: لجنة فلسطين. تذكرت مباشرةً حكايات خالي عن فلسطين. صديقي كان اسمه فتحي، سألته مباشرةً: “أريد أن أنضمّ إليكم وأوزّع منشورات أنا أيضًا”.
بعدما انتهى من التوزيع أخذني إلى عنوان بنهج لا سين في نانتير، والتقينا برجل اسمه جيلبير موري، وكان منشقًا عن الحزب الشيوعي الفرنسي وأسّس مع آخرين الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني الفرنسي. المهم، دخلت في لجنة فلسطين ونشطتُ معهم لسنوات، أوزّع المنشورات وأساعد في نشر جريدةٍ كان اسمها “الفدائي” نوزّعها في سوق نانتير ومراكز تجمّع المهاجرين، مثل “سوناكوترا” إلخ. أيضًا، كنت أذهب إلى جامعة نانتير، حيث عرفت طلبة جزائريين وتوانسة ومغاربة ولبنانيين، ومعهم أسّسنا لجنة فلسطين ثانية، سنة 1970. وهنا كانت بداية مسيرتي كمناضل. بعد استقلال الجزائر، لطالما كان نضال الجاليات المغاربية والعربية، في فرنسا، يبدأ –بشكلٍ أو بآخر- من القضية الفلسطينية.
إذا، كان هناك في نفس الوقت لجانُ فلسطين وحركة العمال العرب المعروفة بـ MTA، وتقريبا كان المنتسبون لهذه التشكيلات من نفس الدوائر والخلفيات. وكانت تلك فترة النضال لأجل حقوق العمال والمهاجرين هنا. مثلا كان عندك أول إضرابات الجوع مع سعيد بوزيري وإضرابات الجزائريين في “سوناكوترا“. مثلا في 1973 كان هناك إضراب في مصنع ورق غير بعيد عن نانتير، حيث كان يعمل المهاجرون بدون أوراق. أتذكر أني ذهبت إلى هناك، لأرى كيف يمكنني مساعدتهم، وهناك التقيتُ بمخرج كان يحاور العمّال المُضربين الذين كانوا يعانون من مشاكل تواصل لأنهم لا يتكلّمون الفرنسية، فوجدتُ نفسي مترجمًا بينهم وبين المخرج، الذي صار صديقًا وتُوفي في 5 جويلية 2024 واسمه جان بيار تورن. وقبل وفاته بسنة أو اثنين، ومع صديقاتنا هنا في المكتبة، نظمنا حدثًا في مسرح “ليزامونديي” تكريما لجان بيار، وعرضنا فيه فيلمه عن إضراب 1973 والذي كان عنوانه “مارغولين”، ولم يكن هذا فيلمه الوحيد عن نضالات العمال، بل كرّس جزءًا كبيرا من مسيرته لهذه القضايا.

بداية السبعينات التي شهدت أحداثا كثيرة، خاصة في كلية الآداب بجامعة نانتير، كنت مع أصحاب من المنطقة، لمين ومحمد كنزي، كنا أربعة أو خمسة، وتعاركنا في مدخل الكلية مع مناضلين من “الشبيبة الاشتراكية الفرنسية” حول القضية الفلسطينية، لم يكن عراكًا عنيفًا فعلا لكننا ضربناهم، فذهب هؤلاء المناضلون واشتكونا للشرطة التي جاءت تبحث عنا بعدها. أمسكوا بمحمد كنزي الذي سُجِن على إثر ذلك. أنا اختفيتُ عن الأنظار حتى نصحتني أم صديقٍ لنا، وهي محامية فرنسية اسمها جاكلين إسرائيل (نعم، كانت يهودية وقريبةً للمحامية الشهيرة جيزيل حليمي، ومثلها كانت قد دافعت عن مناضلي جبهة التحرير وقت الحرب) بعدما سمعت قصتي أن أسافر وأختفي لفترة معيّنة. وهكذا، بمساعدة الرفاق، تحصّلت على تذكرة طيران إلى بيروت. وهكذا وصلت إلى لبنان وبقيتُ ثلاثة أشهر. كان هذا في بداية جانفي 1973.
الوصول إلى لبنان
هناك في لبنان، وبفضل رفاق في لجنة فلسطين بجامعة نانتير، وجدتُ مسؤولاً من حركة “فتح” بانتظاري. ثم التقيتُ مناضلين بنبعا، شمال بيروت، من الاتحاد العام للطلبة الفلسطينيين، وكان معي أحدهم كنت أدعوه بسي محمد. بقيتُ في بيروت لأسبوع ثم تحركت نحو دمشق وهناك سمعتُ خبرًا فاجِعًا من باريس،ألا وهو اغتيال محمود الهمشري، أول سفير لحركة فتح بفرنسا. وأنا قبل أن أسافر إلى لبنان، كنت قد التقيتُ الرفيق عز الدين القلق (وكان نائب محمود الهمشري) الذي أعطاني رسالة إلى عائلته بدمشق، ولهذا ذهبت. وقتها لم أعرف فحوى الرسالة، لكن لاحقا لما اغتال الموساد الرفيق عز الدين هنا في باريس، فهمتُ أني حملتُ وصيّته إلى عائلته.
لم أمكث مطولا في دمشق، التقيتُ بعض الطلبة الجزائريين الذين كانوا يدرسون هناك وسمعتُ منهم أخبارا عن البلاد وأحوالها. ثم عدت إلى لبنان، ذهبتُ مع سي محمد إلى الجنوب لكننا، خلال الرحلة، اضطررنا إلى العودة والتوجه نحو الشمال على عُجالة. لم أفهم ما حصل وقتها، لكني فهمت في الطريق أن مخيمات النهر والبارد والبداوي بطرابلس قد قصفوا. ذهبتُ معه وساعدت في إجلاء المصابين وبقيتُ هناك لفترة. ويوم عودتي من بيروت إلى باريس، قُتل ثلاث قادة من فتح، من طرف كوموندوس من الموساد تسللوا عبر البحر إلى لبنان، ببيروت: كمال نصر، كمال عدوان وأبو يوسف.
عندما عدت إلى باريس، كانت رائحة الموت والاغتيالات في كل مكان. لا يجب أن ننسى أن محمد بودية اغتاله الموساد في جوان 1973 أيضًا، يعني كنا محاصرين. ولذلك أول ما سمعت أن “رابطة الجزائريين بفرنسا” فتحت باب التسجيل للجزائريين الذين يودّون الالتحاق بالثورة الزراعية للمشاركة، ذهبتُ وأدرجتُ اسمي وسافرت إلى البلاد كي أتطوّع في هذه الحركة.
الثورة الزراعية
يجب التذكير أيضا أني لم أزُر الجزائر منذ خرجت منها طفلا مع عائلتي سنة 1958. لم يكن سهلا علينا. لكن شاركتُ في مخيم صيفي نظمته “الرابطة” سنة 1963، كان عندي 15 سنة، مع العديد من الأطفال الجزائريين هنا في فرنسا.
بعدها بعشر سنوات، ذهبتُ إلى الجزائر كمتطوع. وفي مجموعتنا كنا ثلاثة أو أربعة مهاجرين بالإضافة للمحليين. استقبلونا في العاصمة، ثم وُزّعنا على أرجاء البلاد. أنا اخترتُ الذهاب إلى مسقط رأسي، بمستغانم، قرية ستيديا.
وكان المسؤول عنّا بليدًا نوعًا ما، يفتقد لروح المبادرة ويرفض كل اقتراحاتنا. مع الوقت قررنا إقصاءه، خاصة بعد أن قرأنا في لا شارت أن غياب أحد الأعضاء عن الاجتماعات مع البلدية يعرضه للإقصاء، وهو كان دائما غائب، يبقى في المدينة، في حين أننا لا نتحرك من ستيديا. وهكذا نظّمنا أنفسنا للعمل. صراحةً كان من الصعب على مجموعة صغيرة من الشباب أن تعمل في أراضي شاسعة. لكن بدأنا بالأقرب إلينا، خاصة بعد أن لاحظنا أن الشاطئ حيث كنا نسكن، والذي به مخيم صيفي، في حالة يرثى لها. كان مُهملًا ومليئًا بالنفايات.
والثورة الزراعية، إذا ما قرأنا النصوص، لم تكن تتعلق بالأرض والزراعة فقط، بل أيضا بعلاقتنا مع الطبيعة والنظافة إلخ. وبدل أن نذهب لمساعدة المزارعين، دعوناهم لمساعدتنا حتى نذهب لتنظيف الشاطئ والمياه، كما نظفنا مرافق المخيم الصيفي ثم صبغناها بالجير. وأخذ منّا هذا العمل شهرًا من الزمن، وهي مُدّة تطوّعنا هناك.

وطبعا، بعد أن فرغنا من مهمّتنا قمنا بكتابة تقرير عن كل ما فعلناه خلال ذلك الشهر. بعدها عُدنا إلى العاصمة وبقينا في الإقامة الجامعية ببن عكنون. لكن حصلت لنا مشكلة هناك، ألا وهي أن بعض الشباب، من أولاد المهاجرين، مُنِعوا من السفر بسبب عدم تأديتهم للخدمة الوطنية. أنا كنت معفيًا لأنّي من مواليد 1947 والخدمة الوطنية في الجزائر بدأت مع مواليد سنة 1949. كانوا ما بين 15 و20 شابًا. أنا واثنين آخرين رفضنا الدخول، وبقينا معهم ثم أسّسنا لجنةً وتوجهنا نحو وزارة الدفاع ووزارة التعليم، طرقنا كل الأبواب لكننا لم نحصل على نتيجة. فبقينا ننتظر. حتى زارنا ذات يوم عقيد، لم أكُن أعرفه وقتها لكن اكتشفت لاحقًا أنه المرحوم العقيد السنوسي، ركبتُ معه في وكان عنده هاتف في السيارة، وسمعتُ على الناحية الثانية من المكالمة صوتًا يقول: “كيف لم تجدوا حلًا لهؤلاء الشباب؟ اسمعني… استخرجوا لهم جميعًا جوازات سفر دبلوماسية !” هل تعرف من كان المتحدث؟ الهواري الله يرحمه، بومدين.
وهكذا سافرنا بجوازات سفر دبلوماسية، فاستطاع رفاقنا العبور بسهولة، وكان في انتظارنا بباريس أعضاء من بعثتنا الدبلوماسية استرجعوا منّا الوثائق. وهي في الحقيقة، قبل أن نسافر إلى الجزائر للتطوّع، قُدِّمَت ضمانات لمن لم يقم بخدمته الوطنية بأنّه لن يبقى عالقًا في الجزائر. كان هناك وعد وكلمة، وهواري بومدين احترمها.
بعد بضعة أشهر، ربما في أكتوبر 1973، وصلني تيليغرام وبه دعوة لحضور أشغال اختتام السنة الثانية من الثورة الزراعية، بنادي الصنوبر. ركبت الطائرة ونزلت إلى الجزائر، عرّجتُ على بيت جدي بستيديا، ثم ذهبت إلى العاصمة. كان هناك أعداد مهولة من النّاس، ربما 2000 أو 3000 شخص في المؤتمر، كنت ضائعًا قليلًا، ولم أعرف في أي مكانٍ أجلس. كان عندي 25 سنة. ثم تقدّم منّي أحد المُنظّمين واقتادني إلى طاولةٍ في منتصف القاعة.
جلس الجميع وبقيَ مكانٌ واحدٌ فارغ، في مواجهتي، لأكتشف بعدها أنّه كرسي هواري بومدين. سمِع من الجميع وعندما حان دوري سألني عن تجربتي في الثورة الزراعية، لكن أسئلته الأساسية كانت حول حياة الجالية في فرنسا والشباب أمثالي. وهنا فهمتُ أن “الرابطة” هنا تقوم بعملها على أتم وجه (يضحك) كانوا يعرفون حولي نشاطاتي النضالية مع حركة العمال العرب ولجنة فلسطين. وقتها لم أكن أتكلم العربية بشكل جيّد، فاستأذنته للحديث بالفرنسية، وتكلّمنا مُطوّلًا حول أثر تأميم المحروقات (سنة 1973) على الجالية والحملات العنصرية والهجومات على الجزائريين، من طرف عناصر “منظمة الجيش السري” OAS، حتى أنهم اغتالوا أربعة عناصر من قنصلية الجزائر بمارسيليا.
بعدها استقبلتنا، مع رفاق من أبناء الجالية، جريدة “المجاهد” وحاورونا حول كل هذه القضايا. ومن هناك عدت إلى بيت جدي في ستيديا. وهنا حصلت لي حكاية غريبة. ذات صباح، كنت في الحوش أغسل وجهي، وكان الراديو فوق رأسي معلّقًا على الجدار بمسمار، وسمعتُ: “الشرطة تطلق النار… هنالك جثث في كل مكان بباريس… إنها الانتفاضة…” وأنا عقلي كان مازال مع قصص الاعتداءات على الجزائريين بسبب تأميم المحروقات، حضّرت حقيبتي وودّعت جدتي ثم أخذت طاكسي إلى مطار وهران.
ما أن دخلت إلى قاعة الاستقبال حتى قرأت تاريخ اليوم على ساعة الجدار الضخمة: 17 أكتوبر 1973. وما كنت أسمعه في الحقيقة، على الراديو، هي برنامج من الأرشيف عن 17 أكتوبر 1961. وهكذا، وبعد وقتٍ قصير من هذه الحادثة، صِرتُ مُنسّق مجموعة 17 أكتوبر 1961 ضاحية شمال غرب باريس. ومازلنا إلى اليوم نعمل مع الجمعيات والسلطات العمومية. ويمكنني أن أقول لك بأن أول إحياء لهذه الذكرى، قمنا به في جسر بوزون Bezons غير بعيدٍ من هنا، وكان ذلك في أكتوبر 1974. وقتها كان الحديث عن هذا التاريخ محرّم تقريبًا.
رابطة الجزائريين في فرنسا
ويمكنني أن أخبرك في النهاية حول رابطة الجزائريين في فرنسا، أو ما كنّا نسمّيها اختصارًا “لاميكال”، أنا عرفتها منذ الاستقلال. أول مرّة ذهبت في مخيم صيفي، وكان عمري 15 سنة في عام 1963، كان ذلك مع “لاميكال” التي نظّمت مخيّمًا للأطفال الجزائريين بجنوب فرنسا.
“لاميكال” كانت ناشطة، وحافظت وطوّرت من شبكة جبهة التحرير في فرنسا. كان لي الحظ أن عرفت بعض المسؤولين فيها عن قرب مثل العم ساعد عبسي رحمه الله، وهو مجاهد ومناضل قدير.
عديدون انتقدوها في الثمانينات، على أساس أنها واجهة للحزب الواحد بين الجالية في فرنسا، ولكنها كانت الرابط بيننا كجالية وبين دولتنا وبلادنا. وصراحةً، حصلت مشاكل كثيرة بين الأعضاء نفسهم، العم ساعد مثلا كان من أتباع بن بلّة حتى بعد خروج هذا الأخير من السجن في الثمانينات، حيث ساهم معه في تأسيس حزبه وقتها. وهذا شيء طبيعي ألا يكون الجميع، بعد انتهاء حرب التحرير والاستقلال، على نفس الهوى السياسي. لكن كثيرين عملوا مع بعض طيلة أزيد من عشرين عامًا في هذه الرابطة.
هو قال لي “شريف ولدي، فعلت كل ما بوسعي كي أصفّي لاميكال، رغم أنه يحزّ في نفسي… وأنا نادم اليوم، لأنّه رغم كل شيء كانت تربطنا ببلادنا”.
لاحقًا أسّسوا جمعية اسمها “سوليداريتي دي زالجيريان أون أوروب”، لكنها كانت مختصّة بالمساعدة والتكفّل بنقل جثث الموتى. لم تكن تختص بالأحياء (يقول ويبتسم).
اليوم، ومنذ بضعة سنوات، أرى أن هناك صفحة جديدة تُكتب بين الجالية الجزائرية في الخارج، وبالخصوص بفرنسا، هناك كثيرون يعودون للزيارة أو السياحة أو حتى العمل، بعضهم لم يزُر الجزائر أبدًا. كثيرون منهم شباب. في نفس الوقت هناك محاولات من الحكومة لاستقطاب أبناء الجالية. أتمنى أن تتغيّر الأمور نحو الأفضل.