ظهر لقب “عمي” تبون، تقريبًا، في منتصف العهدة الرئاسية الأولى (2019-2024)، في فترة جائحة كورونا. خاصةً بعد تعافي تبون من الأزمة الصحية التي مرّ بها، وشروعه في لقاءاته الدورية مع الصحافة، حيث يسأله الصحفيون وهو يجيب على عدد من المواضيع الداخلية والخارجية. عبر هذه اللقاءات، بدأت ترتسم للجزائريين شخصية رئيسهم الجديد، بعد أن جاء إلى السلطة عبر انتخابات انقسم حولها الشارع الجزائري الذي كان يخوض شهره العاشر من مسيرات الحراك.
هذه اللقاءات التي تتجنّب الأسئلة الحرجة ويجلس فيها الصحفيون بامتنانٍ عميق، ظهرت فيها طريقة تعبير ولغة جسم الرئيس الجزائري. يتحدّث تبون اللغتين الفصحى والفرنسية بطلاقة، لكنّه يفضّل أغلب الوقت التعبير بالدارجة الجزائرية وتطعيمها بالفصحى والفرنسية. كما يميل إلى استعمال الأمثال الشعبية والصور المجازية للتلميح أو حسم رأيه في قضية ما، وغالبا ما يعتمد تعبيرات تذكّر بالمثل القائل “أنا ما نقولك وأنت ما يخفى لك”. يستعمل تبّون جسمه كثيرًا عند الكلام، فتراه يحرّك يديه في كل الاتجاهات، من دون انفعال، للتعبير عن أفكاره، كما يرفع حواجبه تحذيرًا أو تأثّرًا.
ومن المرّات التي تأثّر فيها سادس رئيس للجمهورية الجزائرية تلك التي سأله فيها، بالفرنسية، الرئيس والمدير العام ليومية “المجاهد” ابراهيم تاخروبت عن “كيف يعيش عبارة وكنية عمي تبون…”، ليجيب تبون، بالفرنسية بدايةً، أنّه يعيشها “بشكل عاطفي جدا…” ثم يواصل بالدارجة “أنا عندي عاطفة على الشباب من زمان… وهذا ليس شعار كما يقول الجميع… والعبارة هذي فيه احترام وفيها حنين وفيها أبوية… والحمد لله، لما توصل لهذه العلاقة تاع العم مع ابن الأخ، رانا وصلنا… الحمدلله… معناه أنه الجزائر بدأت ترجع لأصولها.”
قبل أن نتطرّق لموضوع الأصول والجذور لنوضّح موقع كلمة “عمّي” في الدارجة الجزائرية، وهو لقب نُطلِقُه من باب الاحترام على رجال أكبر سنًا لا نعرفهم أو لسنا قريبين منهم كفاية، فنقول عمّي أو عمّو فلان، وطبعًا في حال ما إذا كان الشخص أقرب في العمر هناك اللقب المألوف –والذي سنعود له بالتفصيل- ألا وهو “خويا” بمشتقاته اللفظية حسب كل منطقة.
العودة إلى الأصول
كلام تبون عن الحنين والأبوية والأصول يدفعنا للتفكير في الصورة المجازية للشعب كعائلةٍ كبيرة، أفرادٌ متآخون عبر الجغرافيا والزمن، وعندما نتأمل قليلًا في هذه الصورة “العائلية” لا نستطيع أن نتجاهل غياب أحدهم منها. “علاقة العم مع ابن الأخ…”، إذا كان العم هو تبون وابن الأخ هو المواطن الذي يعتمد تبون عمًا، فمن هو الأب؟
يقول المثل الشعبي “كل واحد يعرف وين دفن باباه…”، والسؤال عن أب الأمة الجزائرية، التي تشكّلت في القرن العشرين بنار وحديد حرب التحرير، يقودنا إلى طُرق متشعّبة. قد يتذكّر الجيل الشاب الذي عاصر وصول تبّون إلى الرئاسة أنّ “جمهور” أحمد قايد صالح (1940-2019)، رئيس أركان الجيش السابق، كان يدعوه بلقب “بابانا“، بعد أن فوّضوه -ضِمنِيًا- بالتكلّم باسمهم في وجوه الأبناء العاقّين للحراك. وقد يجيبنا جيلٌ أكبر قليلًا بأنّ الأب قد يكون الرئيس الراحل هواري بومدين، فيما قد يرى آخرون بأن هذا الرأي شعبويٌ ومتسرّع، إلاّ أن بومدين – موضوعِيًا – كان أقرب للأخ الكبير منه إلى الأب. فهو رئيس وعقيدٌ شاب، ابن ثورةٍ قام بها شباب، لدولةٍ شابّة خرجت لتوها من حرب استقلال باهظة الثمن، وفوق كل هذا فبومدين مات شابًا وهو لم يبلغ الخمسين دون أن يترك أولادًا.
الحديث عن بومدين وعن الثورة يقودنا لمُفجِّري هذه الأخيرة. فيمكننا القول أن مؤسّسي جبهة التحرير الوطني، والذين استشهد أغلبهم بين سن العشرينات والثلاثينات، هم أقرب للإخوة الكبار، الثائرين، منهم إلى الآباء الرمزيين للجزائر، دولةً وشعبًا. لكن، ولأنّ التاريخ دائمًا ما يلعب معنا لعبة الدمى الروسية، ويجعلنا أن نكتشف أن كل رمزٍ أو كل حدثٍ مؤسّسٍ يخفي بداخله رمزًا وحدثًا مؤسِّسًا آخر، وبهذا تصير لحظة ولادة هؤلاء الثوّار، مجموعة الـ 22 ونواة جبهة التحرير الوطني، هي لحظة اغتيال رمزي للأب الفعلي للحركة الوطنية الجزائرية –والذي سادَ طويلًا في هذا الدور ولم ينافسه فيه أحد قبل أن تصل ليلة الفاتح من نوفمبر- وطبعًا أنا هنا أتكلّم عن مصالي الحاج. أبٌ لم تكتمل أُبُوَتُّه بسبب تمرّد أولاده عليه وقتله رمزِيًا.
شبح مصالي الحاج
بلغة القرن الواحد والعشرين، وشبكات التواصل الاجتماعي، يمكننا القول أن الدولة الجزائرية “دارت بلوك” لمصالي الحاج وذكراه منذ الاستقلال وحتى وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم نهاية التسعينات. حتى عندما توفي مصالي سنة 1974، جيء بجثمانه ليُدفن في تلمسان، مسقط رأسه، دون أن تنظّم جنازةٌ شعبية لهذا الرجل الذي وصل فرنسا مع الحرب العالمية الأولى، وأسّس منذ العشرينات “نجم شمال إفريقيا” لتنطلق مسيرة الحركة الوطنية الجزائرية في أوساط العمّال المهاجرين.
التاريخ معروف ولن نكرّره. أزمة حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية بداية الخمسينات. الانشقاق بين المصاليين والمركزيين فيما يشقّ أعضاء الحركة السرية، الذراع العسكري للحزب، طريقهم لوحدهم بعيدًا عن المتعصّبين لمصالي وعن “النخبة” المسيطرة على اللجنة المركزية للحزب. تنطلق الثورة مع جبهة التحرير، التي يؤسّسها هؤلاء الشباب، وتبدأ حرب داخلية بينها وبين الحزب الذي أسّسه المصاليون: الحركة الوطنية الجزائرية. الصدمة التي عاشها المجتمع الجزائري خلال سنوات الحرب (والتي جاءت بعد قرن وخمسة وعشرين سنة من الاستعمار) كانت مضاعفة والحرب انتقلت، في بعض الأحيان، إلى داخل العائلة الواحدة.
بعد الاستقلال مُنع حزب الحركة الوطنية من الممارسة السياسية ومُنعت قياداته من دخول الجزائر، وعلى رأسهم مصالي الحاج. لكن عددًا من قيادات جبهة التحرير الوطني، خاصةً من خسروا اللعبة –أو جولةً منها- وهنا أذكر الرئيس السابق المعزول أحمد بن بلة ووزير الخارجية السابق المُطارَدْ بوتفليقة، كلاهما عادا ليراجعا مواقفهما من أب الحركة الوطنية. فبن بلّة زار قبر الرجل عندما غادر الإقامة الجبرية بداية الثمانينات، ثم كتب مقدّمةً لمذكرات مصالي الصادرة في فرنسا. وبوتفليقة، الابن الضال الذي تاه في المنافي بعد موت بومدين، لعشرين عامًا، عادَ بعدها رئيسًا على البلاد، قرّر إعادة الاعتبار لمصالي الحاج، سواء بتسمية مطار تلمسان على اسمه أو بتغيير موقف الدولة الجزائرية من تاريخ الرجل، بالخصوص في كُتب التاريخ المدرسي.
بوتفليقة، آخر رئيس جمهورية-مجاهد في الجزائر، كان تلميذًا لبومدين ومثله كان يحاول لعب دور الأخ. كان أخًا أكبر، حتى عندما مرض وغاب عن الصورة، جاء إخوته الأصغر سنًا ليحكموا. هو الذي جاء إلى الحكم وفي رصيده لقب أصغر وزير خارجية في تاريخ البلاد، هو الذي لم يتزوج ولم يلِدْ، وهو الذي اتخّذ جملة “ارفع راسك يابّا” شعارًا لإحدى حملاته الانتخابية. بوتفليقة، الخارج من تحت جناح بومدين، لم يقترب من كرسي الأب. أب الأمة وربّ العائلة الكبيرة. بل حتى تكريمه لذكرى مصالي جاء من هذا المنطلق، بالإضافة إلى أنّها انتقام رمزي من حزب جبهة التحرير الذي طرده، تكريمٌ لاحِق لمظلوم، لأبٍ لم يؤسّس سلطته ولم تكتمل أبوّته.
خوك خوك لا يُغرّك صاحبك
عِقد التسعينيات – الحرب الأهلية كما يسميها البعض والمأساة الوطنية كما تسمّيها الدولة – الذي جاء بوتفليقة ليضع له حدًا، لم يقتل فقط عشرات آلاف الأشخاص ومن بينهم رئيس الجمهورية –والعقل المدبّر لجبهة التحرير الوطني- محمد بوضياف، بل اغتال معه (حسب تصريح قديم للكاتب رشيد بوجدرة منذ سنوات) قيمة ومعنى “الأخوّة” عند الجزائريين. صار الأخ يشكّ في أخيه.
لا يمكنك أن تزور أي جهةٍ في الجزائر دون أن تنتبه لتردّد الكلمة. “خو… خيّي… خويا…”. هذه القيمة والمثال الذي ورثناه عن جبهة التحرير الوطني اهتزّ وأصيب في مقتل خلال الحرب الأهلية. مؤسّسي جبهة التحرير ورثوا الكلمة عن الحركة الوطنية الاستقلالية. هذه الكلمة السحرية التي وحّدت بين عمّال جزائريين أمّيين تركوا قراهم ومدنهم، البعيدة عن بعضها البعض، وسافروا إلى عاصمة المستعمر للعمل في مصانعه وإلى أريافه للعمل في مناجمه. ماذا كان يجمع بين من جاء من تلمسان ومن جاء من بجاية ومن جاء من الأوراس في عشرينات أو ثلاثينات القرن العشرين؟ كلهم مستعمَرون وكلهم أميّون. لكنّهم إخوة، إخوة في الظلم والبؤس، إخوة في الدين والانتماء إلى الأرض. ومن المُفيد أن نتذكر كلمات مفدي زكريا، الذي كتب نشيد حزب الشعب في منتصف الثلاثينات أي 20 عامًا قبل أن يكتب “قسمًا”، والتي تقول: “خُلِقنا بحكم الهوى إخوةً فتبّت يدا كلّ من فرّقا”.
إذًا، منذ مولد الحركة الوطنية، وحتى مع وجود شخصية مثل مصالي الحاج في موقع الزعيم، كان ما ربط بين الجزائريين هو الأخُوّة؛ القيمة التي ترسّخت لاحقًا بمولد جبهة التحرير، فهم الإخوة الذين ثاروا ضدّ الأب وفجّروا ثورةً صارت فيها كلمات مثل “الخاوة” أو “إخوان” تعني مباشرة المجاهدين ومناضلي الحركة الوطنية. لاحقًا تبنّى حزب جبهة التحرير هذه التسمية لأعضائه كما تبنّاها المجتمع فصار الجميع أخًا أو أختًا.
وهذا ما يدفعنا إلى القول، أنه وبملاحظة تاريخ الجزائريين المعاصر، لم يكن سؤال “الأب” أو “الزعيم” مُلِحًا لدى النّاس مثلما هو الحال في بلدان وعند شعوب أخرى، سواء كانت قريبةً -أم بعيدة عنّا- على مستوى التاريخ والجغرافيا.
واش درنا؟
فاتت الثورة وجاء الاستقلال، وانقلب الإخوة على بعضهم. تطوّر المجتمع وتغيّر، تقدّم في حاجات وتأخر في أخرى. عاش الجزائريون حربًا أهلية وزلازل وفيضانات. تغيّرت المدرسة العمومية، وكذلك الصحة، وصار الدين، منذ نهاية الثمانينات –ومثل ما هو الحال في بقية العالم- يلعب دورًا أكبر. اهتزّت السردية الوطنية لكل هذه الأسباب وأخرى، وتعب النّاس من رؤية الدولة تتعلّق في أذيال الشهداء وثورة التحرير كي تستجدي الشرعية.
قام الجزائريون بثورةٍ دامت أزيد من سنة وكانت سلميةً، عكس كل التوقّعات. جاءنا رئيس جديد، أول رئيس غير مجاهد، من جيل الاستقلال، جاء وسط مظاهرات وشارعٍ منقسم في موقفه حول مصير الحراك والانتخابات الرئاسية. ووسط كل هذا، ولأن اللغة ليست وسيلة تواصل وكفى، وجد النّاس الحل في اللّغة. سنسمّيه عمّي تبون، مثل رجلٌ كبير في السن لا نعرفه جيّدًا –كان من قبل وزيرًا ثم وزيرًا أولًا لكنّه لم يُطِل المكوث- ولكن نتوسّم فيه خيرًا. ربما.
عبارة “عمّي تبون”، تخبرنا حتى عند من يقولها بصدق، عن أن المواطنة الكاملة، التي نحلم بها في بلادنا لازالت مؤجلة. وفي انتظار تحقّقها، يعود الجزائريون نحو لغةٍ تقليدية وقبلية، خويا وعمي وفلان إلخ فلربما تجعلنا هذه اللغة، وتجعل السلطة معنا، نقتنع بوجود حالة مساواة ودولة عدلٍ وقانون.
لكن التاريخ علّمنا أنّ لا شيء ينوب عن دولة القانون، لا استدعاء العادات والألقاب القديمة ولا الوعود ولا الأموال الطائلة. لا شيء ينوب عن المواطنة، ودعونا نتذكّر أن البيت التالي من نشيد مفدي زكريا، الذي ذكرناه من قبل، يقول: “نريدُ حياةً لنا حرةً كفانا كفى حياة الشقاء”.
أيضًا، ربما قد يكون توسّم الخير في “العم” نابِعًا من وعي الجزائريين بأنّ هناك أمورًا لن يقرّروها بسهولة في مصير بلادهم، وأنّهم سيلعبون اللعبة ليروا نتيجتها، وماداموا غير قادرين على تحديد القواعد فليقرروا الألقاب والأدوار.