منذ أكتوبر 2023، يلتقط الفلسطينيون في غزة الصور ويشاركونها ليشهد العالم على الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها، معلنين معاناتهم وتفاعلهم الجاد مع هذه المأساة. وفي الوقت الذي يبرر فيه الغرب هذه الإبادة أو ينكرها، يعرض هؤلاء حياتهم للخطر بمواصلتهم هذا العمل – إذ قُتل أكثر من 200 صحفي منذ بدء الإبادة. ولا يكتفي الفلسطينيون والفلسطينيّات بنقل المعلومات حول ما يحدث، بل يسعون أيضًا إلى توفير الظروف الملائمة لقول الحقيقة وتمكين الآخرين من التحقق منها، في مواجهة موقف الغرب الذي ينكر وقوع الإبادة ويقدم روايته كحقيقة لا تقبل النقاش.
واستجابةً لهذه النداءات، التزمتُ يوميًا بالبحث في هذه الشهادات البصرية منها وغيرها، والتوسع فيها، والتفكير، والكتابة، ونقل صوتهم، ومعارضة النظام الذي يسمح باستمرار هذه اللحظة المأساوية التي يُباد فيه الغزيون من داخل العالم الذي نعيش فيه.
من خلال التزامي اليومي بالتفاعل مع هذه الصور، بدأت أفهم الإبادة الجماعية بطريقة تختلف إلى حدّ ما عن التعريف الذي يقدمه القانون الدولي والخطابات الرسمية. فهذه التعريفات تتجاهل السياق الاستعماري، وتفترض وجود علاقة خطية وسببية بين النية الإبادية وفعل الإبادة. كما أنها تتجاهل الطبيعة الإبادية للأنظمة التي شكلها الاستعمار الاستيطاني، وتُوكَل إلى مختصين وخبراء مهمة تحديد ما إذا كانت أعمال العنف المرتكبة –لا النظام نفسه- بحق جماعة بشرية ما، ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
استلهمتُ منطلقي من كتاب “إيخمان في القدس“ لحنة أرندت، الذي يعتبر أن كل إبادة جماعية هي هجوم على التنوع الإنساني. ولا يمكننا الاكتفاء بالحديث عن الإبادة الجماعية في السياق الاستعماري فقط، بل يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العنف الإبادي المستمر الذي يتعرض له المستعمَرون، باستخدام وسائل متعددة، في إطار نظام إبادي تعود جذوره إلى تصنيف عنصري لمجموعة بشرية أو عدة مجموعات، يُضفى عليها طابع “القابلية للإبادة” من قِبل قوى تمتلك أدوات القتل، وتملك في الوقت نفسه السلطة اللازمة لبناء إجماع حول مشروعية هذا الفعل.ويُعد هذا التمييز ضروريًا لفهم الشكل الخاص للإبادة الجماعية الاستعمارية، التي لا تُعد حدثًا محدودًا بزمن، بل تُشكّل عنصرًا تأسيسيًا في النظام الذي يُنتجها، حيث يمكن القضاء على أعضاء الجماعات المصنَّفة كـ”قابلة للإبادة” وأنماط عيشهم، في أي لحظة، من خلال ممارسة عنف إبادي ممنهج.
نظرًا لكون الإبادة الجماعية عنصرًا تأسيسيًا في النظام، فإنها تُمارَس كقوة لا يمكن مقاومتها. وتُفرض “قابلية الإبادة” على جماعة بشرية معيّنة، باعتبارها ضرورية لبقاء النظام، ولضمان قدرته على حماية مواطنيه (أي أعضاء الجماعة الحاكمة )، وذلك بهدف تحصين حملات الإبادة ضد أي مساءلة أو اعتراض محتمل.
يقوم هذا التعريف، المرتكز على فكرة بناء إجماع حول “قابلية فئة ما للإبادة”، بتقديم فهم أوضح للعلاقة بين الإبادة الجارية في غزة وسلسلة العنف الإبادي المنهجي الذي يتعرّض له الفلسطينيون منذ عام 1948. ومن خلال الربط بين الإبادة الحالية وهذا العنف الممنهج، تتّضح طبيعة النظام الإبادي الذي يتعامل مع الفلسطينيين كأشخاص يمكن إبادتهم. لذا، فإن فهم كيفية ومتى تم بناء هذا الإجماع يتطلّب التخلص من بعض المسلّمات التاريخية والجغرافية، إلى جانب إدراك دور الغرب والنظام العالمي الجديد الذي فرضته نهاية الحرب العالمية الثانية.
مرآة التاريخ: من الاستعمار إلى الإبادات الجماعية بين الماضي والحاضر
لا أنسى الصدمة التي انتابتني عندما قرأت للمرة الأولى في كتاب “ايخمان في القدس” لحنة آرنت، كيف تمكّن راينهارد هايدريش، أحد القادة النازيين البارزين، من الحصول على موافقة فورية على “الحل النهائي” – أي خطة إبادة اليهود– خلال مؤتمر وانسي. فذكرت أرنت كيف كان هايدريش يخشى أن يرفض المشاركون الانخراط الفعلي في القتل الجماعي—وهو تخوّف مبرّر تمامًا. لكنها تضيف: “لقد كان مخطئًا تمامًا.” إذ تمّ التوصل إلى إجماع فوري، وبدأ المشاركون فورًا في تنفيذ الخطط العملية لـ “الحل النهائي”.
يمكن القول إن آرنت كانت محقّة في إشارتها إلى سرعة الوصول إلى هذا الإجماع، غير أنه لا ينبغي أن نغفل أن هذا النوع من الإجماع كانت القوى الأوروبية قد توصلت إليه منذ زمن بعيد، حين اعتبرت جماعاتٍ عرقية وغير مرغوب فيها قابلة للإبادة. وهو ما أتاح وقوع المجازر الاستعمارية بفترة طويلة قبل الإبادة المنظمة لليهود. ومن خلال هذا الأساس الاستعماري لفكرة “قابلية الإبادة”، كما في حالة الجزائريين أو سكان أمريكا الأصليين، يمكننا أن نفهم السرعة التي توصلوا بها إلى هذا الإجماع لاحقًا.
وهكذا، فإن ما حدث بعد السابع من أكتوبر لم يكن بحاجة إلى “مؤتمر وانسي” جديد لطرح مسألة قابلية الفلسطينيين في غزة للإبادة؛ إذ تشكّل إجماع شبه فوري لدى القيادات السياسية والعسكرية الإسرائيلية والبلدان الغربية على تنفيذ الإبادة الجماعية، كما لو أنه إحياء لإجماع أواخر الأربعينيات. وتكشف سرعة تنفيذ القرار عن تغييب كامل للتساؤلات الأخلاقية حول حرمة الحياة البشرية، أو حول البدائل الممكنة للرد على هجوم 7 أكتوبر؛ فقد جرى طيّها في ملف “الماضي” – ذلك الزمن المُصطنَع الذي ابتكره الاستعمار الأوروبي لتبرير مشاريعه الدموية دون أن يُحاسَب.
كان يمكن للصدمة التي عاشها المستوطنون في فلسطين – أي المواطنون الإسرائيليون – في 7 أكتوبر أن تمثّل لحظة وعي تقود إلى الاعتراف بأن دولتهم هي التي خلقت ظروف معسكر الاعتقال في غزة، وجعلت من المقاومة المسلحة تحصيل حاصل. لكن، وبدلًا من ذلك، جرى استبدال الصدمة على الفور بإعادة التأكيد على “حق” إسرائيل في ارتكاب إبادة جماعية بحق أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ودعوة المستوطنين إلى حمل السلاح لتنفيذ هذا المخطط.
سارعت القوى الاستعمارية الغربية إلى دعم خطة الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة، وشارك العديد منهم من خلال توفير الدعم المالي، وتزويد إسرائيل بالأسلحة، وتوفير تغطية إعلامية تُعيد إنتاج الدعاية الصهيونية. كما كثّفت من أدوات القمع، عبر استعادة دورها القديم كحارس للسردية الأوروصهيونية حول تدمير فلسطين، وقمع الأصوات المعارضة، وتكميم الأفواه، بل ومعاقبة وسجن مواطنيها الذين يرفضون هذه السردية وهذا الإجماع، أو الذين ينخرطون في أنشطة نضالية، قانونية أو تنظيمية، دعماً لفلسطين.
يعطل هذا الإجماع، وأشدّد على ذلك، طرح التساؤلات الأخلاقية ويقمع أي اعتراض على مواصلة الإبادة الجماعية، باعتبار أن زمن طرحها قد ولّى. فبمجرّد انطلاق الإبادة، يُنظر إلى تلك التساؤلات على أنها تنتمي إلى “ماضٍ” جرى تجاوزه بشكلٍ مصطنع.
يكشف التزام الدول الغربية بدعم هذا الإجماع وحمايته – خصوصًا في ما يتعلّق بقابلية الفلسطينيين عمومًا، وليس فقط سكان غزة، للإبادة – واستخدامها العنف لقمع مواطينها الذين يعارضونه، عن نيتهم الحقيقية في الحفاظ على النظام الإبادي الذي يفني الفلسطينيين، ويحوّل المستوطنين الصهيونيين في فلسطين إلى مرتزقة. لكن في الحقيقة، فإن الإجراءات القمعية التي تُمارَس باسم “حماية اليهود”، ما هي إلا إعادة إنتاج للسياسات الأوروبية المعادية لليهود، حيث تحدد اليهودي الجيد أي الإسرائيلي الصهيوني الذي يضطلع بدور المرتزقة في الغرب، و”اليهودي السيئ” أي من يتمرد على هذا النظام، ويعارض الدور التاريخي الذي لعبته أوروبا والغرب في تدمير فلسطين كنتيجة مرعبة لإبادة اليهود.
تستدعي الصور التي يُهرّبها الفلسطينيون من داخل الغيتو الفوتوغرافي ومعسكر الموت الذي تحولت إليه غزة، أرشيفًا مكررًا للعنف الإبادي الصهيوني الأوروبي، ذلك العنف الذي قضى على أنماط الحياة الفلسطينية مرارًا منذ نكبة 1948.
ومع هذا التاريخ الطويل العالق في الأذهان، لا ينبغي أن نبحث عن لحظة تشكُّل هذا الإجماع في أكتوبر 2023، بل أن نتتبّع آثار العنف الإبادي باعتباره جزءًا متأصل في النظام الذي يديمه . بمعنى آخر، هذا الإجماع، الذي يبدو وكأنه ظهر فجأة، تشكل في الواقع منذ زمن، بين 1945 و1949، حين منح عملاء الإمبريالية الإباديّة الأوروبية الأمريكية مجموعة صغيرة من الصهاينة اليهود رخصة لتدمير فلسطين تحت ذريعة “رفاهية اليهود”.
في مواجهة الصمت: توثيق قابلية الإبادة الجماعية ومناهضة الإجماع
يوجه لنا سكان غزة معرضين حياتهم للخطر لنقل هذه الصور رسالة تقول: أوّلا أنهم لا يطلبون فقط أن نشهد على ما يجري، بل أن نُصغي ونعرف ما يمرّون به، ونفهم طبيعة النظام الذي يمارس هذا القتل. ويعني الاعتراف بهذه الصور الموثقة لجرائم ضد الإنسانية مقاومة للإجماع حول “قابلية إبادة” الفلسطينيين، وتأكيد أن استهداف أجساد جماعة ما بالإبادة، أياً كانت هويتهم، هو جريمة ضد الإنسانية، وضد كل واحدٍ منا.
تُعدّ الإبادة الجماعية، كما الإجماع الذي يسهم في تسهيلها – ويجب أن نقول ذلك بوضوح – نظامًا متكاملًا يعمل على تدمير شرط قول الحقيقة. ولهذا، لا يمكن إيفاء حقّ العمل البطولي الذي يقوم به الصحفيون والمصورون في غزة، أولئك الذين يخاطرون فعلًا بحياتهم لالتقاط صور ونقل معلومات كانت ستُدفن تحت أنقاض الأرواح التي جرى تدميرها.
ولا يقتصر قول الحقيقة على مضمون السرد أو صدقه، بل يتعلق أيضًا بإتاحة الشروط التي تسمح لمختلف الناس بالبحث عن الحقيقة دون تهديد بالإقصاء أو الاغتيال أو إسكاتهم مسبقًا، فقط لأن وجودهم نفسه يفضح الهدف الحقيقي – وإنْ كان مخفيًا – للإبادة الجماعية: جعلهم قابلين للإبادة.
هناك حملة إرهاب عقلي تُمارَس علينا لنتوقف عن التفكير سويًا، وعن محاولة رؤية ما تمثله غزة. هذه الحملة تهدف إلى حرماننا من حقّنا في الاعتراض والاحتجاج، كما تحتقر ألمنا العميق تجاه الإبادة الجارية، وتجاه المجازر الأخرى التي نتعرف عليها في صور غزة.
لقد عرفنا إبادات مشابهة من خلال الكتب أو في المتاحف، حيث جرى أرشفتها بوصفها جزءًا من الماضي والتاريخ، وغالبًا ما استُخدمت كأدوات للتوظيف السياسي أكثر من كونها دعوة لقطيعة جذرية مع الآليات التي جعلت تلك الإبادات ممكنة. غير أننا، وقبل وقوع هذه الإبادة، لم نكن قد واجهنا في الزمن الراهن الآليات والرعب الذهني الذي يتيح جعل مثل هذه الإبادات جزء من الماضي، رغم أنها لا تزال حيّة فينا، عبر آثارها الممتدة في أسلافنا، كما هو الحال في الجزائر أو فرنسا.
ما دمنا نتناول هذه الإبادات بشكل منفصل، سينكر الجميع الارتباط بينها وبين الأنظمة، والمؤسسات، والآليات التي أنشأتها سلطة الرجل الأبيض المسيحي الأوروأمريكي —الآليات ذاتها التي استُخدمت ضد اليهود والمسلمين، وضد الذاكرة، وضد إمكانية قيام عالم يعيش فيه اليهود والمسلمون في سلام.
يصبح هذا الارتباط مرئيا فقط عندما ننظر إلى كل قطعة منهوبة في المتاحف كدليل على عالم تم تدميره، وعندما نرى في كل صورة دمار، كتلك التي نستقبلها من فلسطين أو سوريا أو لبنان، الثروة الحقيقية لعوالم وأنماط حياة، لم تكن يومًا مجرد ماضٍ، بل كانت حاضرة حتى وقت قريب، قبل أن تُفنى، ليظل القليل منها في المتاحف كشاهد على شعوب اختفت.
يتسم العنف الإبادي بشكل أساسي بتسطيح العوالم، وهذا يسمح للقادة المستعمرين الجشعين ببناء عوالم جديدة على أنقاض ما دمّروه. علينا أن نتذكّر غزة، مع الغزّيين، حتى لا يُبنى عالم جديد على أنقاضها، يمنع الفلسطينيين من إعادة بناء عالمهم من بين الركام. فبعد القصف، يرسل المستعمرون جرافاتهم لسحق الأنقاض حتى تتحوّل إلى غبار، كي لا يبقى من غزة سوى آثار مسطّحة على الأرض. وفي هذا يتجلى الهدف الصريح: جعل عودة الفلسطينيين مستحيلة.
يعني أن نشهد مع الفلسطينيين، وأن نحافظ معًا على شرط قول الحقيقة، رفض النسيان، نسيان أن الاستعمار قد ارتكب من قبل دمارًا مشابهًا، وأنه لا يمكن التظاهر بالدهشة أمام هذه المشاريع التي تهدف إلى تحويل غزة إلى منتجع ساحلي للمستوطنين الغربيين. هل نسينا أن العقول التي شكّلت جوهر المهارة الحرفية الجزائرية المتوارثة (أي العالم الحِرَفي اليهودي المسلم) يرقد أصحابها تحت ساحة الشهداء، التي كانت تُعرف سابقًا بالساحة الملكية (بلاس روايال) ، في سبيل تحويل ذلك الجزء من الجزائر إلى حيّ ساحلي للبرجوازيين الفرنسيين؟.
إن أولئك الذين يستثمرون في احتلال فلسطين هم أنفسهم من يواصلون خلق هذا الالتباس المتعمّد بين الصهيونية واليهودية، وذلك بهدف قمع أي معارضة للإبادة. ويُعدّ هذا جزءًا من المخطط الذي تبنّاه ترامب. لكن لا بد من طرح السؤال الجوهري: ضد من ندافع عن اليهود؟ هذه هي المغالطة التاريخية التي يجب تفكيكها ودحضها، إذ لم يكن الفلسطينيون ولا العرب في يوم من الأيام أعداء لليهود، إلى أن حوّل الغرب فلسطين إلى مستوطنة صهيونية، وهو ما استدعى الدفاع عن حقهم فيها.
إن رؤية الإبادة وحدها لا تكفي. لا بد أيضًا من رؤية استمرار الحياة الفلسطينية في كل صورة من صور الخراب، وفهم أن هذه الحيوات تستحق أن تُرمَّم وتُستعاد. علينا أن نرفض اعتبار الأنقاض نهاية بحد ذاتها، أو أن نراها معروضة في المتاحف كأنها شذرات من ماضٍ منقضٍ.يعني أن نتذكّر مع الفلسطينيين، أن نُقِرّ بأن هذه الأنقاض تجسّد ثراء العوالم وأشكال الحياة التي سعت آلة العنف الإبادي إلى محوها.
يجب علينا بينما نشهد في الوقت الراهن تحويل العوالم الحية إلى أشياء تُعرض في المتاحف، أن نعكس الدرس الذي تعلمناه كزوار للمتاحف. يجب أن ننظر إلى صور الدمار هذه كشظايا تُشكّل أساسًا لاستعادة الحياة الفلسطينية في غزة، وكآثار تتيح لنا التواجد إلى جانب الناجين، معهم ومن أجلهم، بعد الإبادة. ويتعين علينا أن نمنع الجهات الغربية الممولة لهذه الإبادة من معاملة أهل غزة كمواضيع بلا تاريخ، يُتوقع منهم قبول سياسات التنمية وحلولهم بصمت.
ينحدر كثيرٌ منا من عوالمٍ دُمِّرت؛ فعندما نشاهد اليوم دمار غزة، نرى نفس الآليات التي أدت إلى اختفاء عوالم أسلافنا. ونقيم الحداد على إبادات أخرى من خلال هذه الصور التي تجعل من ألمنا ملموسا. ومن مسؤوليتنا أن نضع هذه الإبادة في سياق إبادةٍ أخرى، إذ يكشف ذلك عن مدى استمرار التقنيات العنصرية التي تُنتج قابلية الإبادة، حتى بعد النهاية الظاهرة للمجازر.
هكذا قامت القوى المسيحية، الأوروبية والأمريكية بتطبيع هذه التقنيات على مدار القرن الماضي، ودمرت في طريقها أشكال أخرى محتملة من التنظيم السياسي. لقد واجهنا معظم هذه الإبادات الأخرى ضد الهيريرو والناما، والسكان الأصليين للأمريكتين، واليهود، والغجر والسنتي، والجزائريين، وغيرهم… في كتب أو متاحف، حيث أصبحوا بالفعل جزءًا من التاريخ. وغالبًا ما تُستغل هذه الإبادات لخدمة مشاريع أخرى بدلاً من معالجتها بشكل عاجل لكسر الهياكل التي جعلتها ممكنة.
يعتبر فهم الإبادات السابقة في ضوء تلك التي تجري حاليًا في غزة أمرٌ أساسي، إذ يسلّط هذا الضوء على احتمال وقوع إبادة أخرى في حال لم تُفكّك المؤسسات والتقنيات التي تتيح هذه الفظائع. كما أن تتبُّع الكيفية التي تُصبح بها الإبادة جزءًا لا يتجزأ من هذه الأنظمة هو بمثابة رسم خريطة تكشف عن سبب ارتباط تحرير فلسطين بتحرير العالم بأسره.