جار التحميل ...

بحثا عن الحلم الجزائري


وَعَدَ مؤسّسو الولايات المتحدة الأمريكية مواطنيهم بالرفاهية والحرية وبالسّعي وراء السعادة وجعلوا لهذه الوعود اسمًا: الحُلم الأمريكي… أمّا الحزب الشيوعي فوعد مواطنيه في جمهوريات الاتحاد السوفيتي، رغم انغلاق المعسكر الشرقي على نفسه والقمع، بأنّهم سيصنعون “الإنسان الجديد” الذي يحرّر شعوب العالم ويجعلها تسير نحو الأممية وتُعمِّرُ الفضاء… الفرنسيون رسموا لأنفسهم، بعد قطع رأس الملك، ثلاثة خطوط: المساواة والحرية والتآخي… هنالك بُلدانٌ أخرى تبني حياة وحُلم مواطنيها على دفع حدود الحضارة نحو الصحراء أو نحو البحر أو على حساب الغابات… هنالك دائما حُلمٌ ما يدفع النّاس إلى تحمّل الحياة، قد يتحوّل إلى كابوس، قد تستغلّه الإشهارات التجارية، قد يفكّكه الأدباء والمفكّرون… المهم أنّه يوجد حلمٌ ما. 

فكّرت في كل هذا وأنا أقود سيارتي في الطريق السريع، بالجزائر العاصمة. شاهدتُ لافتة إشهارية ضخمة تُصوّر سماء غروب، وفكّرت في أنني أشاهد لأول مرة صورة سماء في إشهار جزائري. أصلا، يكاد يكون وجود اللافتات الإشهارية مُنعدما في الطرقات السريعة الجزائرية. وهذا عكس أغلب بلدان العالم، من أمريكا إلى مصر، مرورا بألمانيا وتونس. هل لأننا ليس لدينا الكثير لنُروِّجُ له في هذه البلاد؟

الشيء الغريب في لافتة الإشهار تلك، هو أنني انتبهت إلى أنّه لا يوجد إشهار في الجزائر –تقريبا- يستعمل صور سماء وأفق مفتوح، أو باخرة تشقُّ مياه البحر، في الترويج لعروض ومنتجات ما. لماذا؟ لا أدري صراحة، ربما لأننا من أسوء الشعوب في مجال الترويج، أو ربما فقط لأننا –منتجين ومستهلكين- لا نرى الأفق؟

للأفق أهمية كبيرة في الإشهارات، في العالم أجمع. فأنت تفتح أمام المستهلك الذي يجلس على أريكته أمام التلفزيون، أو خلف مقوده على الطريق، نافذة يُطلّ منها على وعدِ بحياةٍ مغرية أكثر من حياته. أنتَ تعِدُ المُستهلِك بالنجاح، بالسعادة، بالسفر والاكتشاف… أنت تداعب فيه غرائزه البشرية الأولى، تقول له أنّ الإنسان لا يجب أن يبقى حبيس بيته. بالعكس، غامر واكتشف واستهلك، امنحنا أموالك وسنمنحك سرّ الحياة، سنساعدك على الإمساك بالسعادة. وطبعا، تتكرّر الوعود مع كل منتج وخدمة تُقدّم للمُستهلِك. وهكذا… جنّة الرأسمالية الموعودة. لكن، كما نعلم جميعنا، لا وجود للرأسمالية في الجزائر.

ماذا يوجد إذن؟

في الحقيقة، فالجزائر بلادٌ تعيش ونظرها وعقلها موجّه نحو الماضي. وعندما أقول بلاد، فأنا أعني جميع مكوناتها، من نظام وقوى اجتماعية وقبل كل هذا: الخيال الجماعي نفسه موجّه نحو الماضي. الغدُ، والمستقبل عموما، ليس مُدرجًا في أذهان الجزائريين. رغم أنّ شعوبا أخرى تعتبرُ المستقبل منجم ذهبٍ تتصارع لتتقاسم خيراته، فنجدُ السياسيين والبورصات والبنوك والثوّار والمعارضين والعلماء والكتّاب يحجزون أماكنهم في هذا المستقبل الموعود. كلٌ حسب رؤيته وتصوّره. لكن هنا يوجد الماضي، الذي هو عكس الأفق، عكس المستقبل. تقريبا، لم تتوجّه إرادة هذه البلاد وحلمها وطموحها إلى لحظة أعلى من لحظة ثورة التحرير، ولم ينجح شيء في هزّها عن جمودها هذا سوى حرب أهلية دامية دامَت عشر سنوات. عُدنا بعدها للتعلّق الدائم بـ “ماضينا المجيد” مع الكثير من الجروح والرضوض التي خلّفها تقاتلنا على عتبة الألفية الثالثة.

المشكلة ليس في الماضي (passé) نفسه بل في الماضوية (passéisme). التعلّق في زمن مُعيّن وترك المستقبل للمجهول والمكتوب وكل التصوّرات الروحانية. هكذا تتحرّك كل الدولة -التي تملك وسائل تحديث المجتمع- في حركة واحدة ووحيدة: نحو الماضي.

وما علاقة الماضي بالإشهارات؟ العلاقة عكسية، الماضي هو عكس الإشهار التجاري الذي يعِدُك بالغد، بالمستقبل، ولا يلجئ إلى الماضي سوى لمداعبة حنين ما أو لاستعماله كديكور. الإشهار هو الأفق المفتوح، الدعوة للمغامرة، هو الطائرة التي تعبر السماء مثل شهاب وهو الطريق الممتد أمام سيارة جميلة وغالية لكن يمكنك شراءها وهو المنزل الجميل المطلّ على الحقول والبحار والذي سيُقرضك البنك لشرائه. هو المرأة الفاتنة، نصف العارية، هو الرجل الذي يُشبه جسده التماثيل اليونانية. الإشهار هو الرغبة. هل نرى كل هذا في إشهارات الجزائر البائسة؟ الإشهارات التي تصوّر نرى فيها عائلات بائسة تردّد أغانٍ تافهة، في ديكورات باهتة وداخلية كأنّ لا وجود للشارع… نحن لا نصوّر شوارعنا في الإشهارات فما بالك بأن نقدّم وعودًا للمستهلك بالسفر لأماكِن بعيدة ! كيف يحلم المشاهد مع إشهارات مماثلة؟

ساحة أول ماي، تصوير سمير سيد، 2012

وهنا نعود قليلا نحو الحلم، هل يوجد شيء اسمه “الحلم الجزائري”؟ يمكن أن نقول بأن البلاد عرفت فترة أحلام قوية عند تأسيسها. البلاد نفسها صاغها الحلم بالتحرّر والاستقلال، وتقرير الشعب (الذي كان حُلما) لمصيره. مكّة الثوار كانوا يقولون. البلاد نفسها شكّلت قدوة وحلما لبلدان كثيرة… لكنها أيضا تحوّلت إلى كابوس لنفس هذه الدول. الأزمات الاقتصادية ثم الحرب الأهلية ثم حُكم رجل مريض ومشلول لمدة عشرين عاما. الجزائر تنتقل، وبسرعة البرق من الحلم إلى الكابوس. لكن، لا علينا، دعونا نبتعد قليلا عن هذا التاريخ الجماعي، والحلم والكابوس الجماعي، ونقترب قليلا من حلم الفرد، الواحد، المواطن، الجزائري. ما هو حلمه؟ ماذا يبيعه أصحاب المال والقرار في هذه البلاد؟ 

من يحكم البلاد يتعامل مع الإنسان في الجزائر كنصف مواطن، أو كرُبع مواطن، والدولة وصيّة عليه. تمنحه كل ما ترى هي أنّه يحتاجه، وتصرفُ ريع البترول والغاز كي تبقى الأمور على حالها: يركض وراء الشهرية، ويملك سيارة ماروتي –أو رونو سامبول- ويسكن في سكنات “عدل” ويحمد الله على الكفاف والعفاف. بعد أن عزف الجزائري “نغمة الرشاش لحنًا”، ووعدَ بتحرير الشعوب المظلومة، صار معزولا عن العالم بل ومعزولا عن مواطنيه في المدن البعيدة. ولا يتقاتل سوى في تفاصيل أمور تاريخية تافهة غالبا، يتصوّر أنّها أساسية لتعويض العقد الاجتماعي الغائب.

ولكن، هل من الضروري أن يكون لنا حلم جزائري؟ لا، ليس ضروريا طبعا، وربما من الأحسن أننا لا نملك لافتات إشهارات ضخمة تحجب عنّا الأفق. لكن ماذا فعلنا بهذا الأفق الحقيقي؟ هذا هو السؤال. فالجزائري، كل شيء مبرمج له حتى لا يسافر. من بنوك الدولة التي تمنحه 100 أورو في السنة كمصروف سفر، ويضطر لشراء العملة الصعبة من السوق السوداء، لو وافقت السفارات على منحه تأشيرة. ولا ننسى أن الجزائري، لا يحصل على تأشيرة سوى بعد ملفّات ثقيلة، تطلبها السفارات، تفوق نظيراتها التي تطلبها الإدارة الجزائرية. هذا في الخارج، أما في الداخل، فكل شيء مُبرمج حتى لا يتحرّك الجزائري من مدينته… التي بدورها لا تملك أفقًا مفتوحا.

ربما من الصعب أن يوجد حلم جزائري يسعى وراء اكتشاف الآفاق ودفع الحدود والسفر والمغامرة، فقط لأنّ تاريخنا لم يكن توسّعيًا وحدودنا لم نرسمها نحن ولسنا –عموما- شعبًا مهاجرا، ما عدا الرحلات الانتحارية للحرّاقة آخر 20 عامًا، في محاولتهم لعبور الأفق البحري…  لكن من المهم أن تكون لنا فرضية ما عن تصوّرنا للسعادة، سعادة لا تُشارك في صنعها الإشهارات فقط، بل تصورنا عن أنفسنا كأفراد وكجماعة. من المهم أن تملك هذه الفرضية، حتى تتصارع معها، تُصدّقها تارة وتُكذبّها تارة أخرى. كما تتصارع كل الشعوب مع فرضية وجود أحلامها من عدمها. ولصنع هذه الفرضية – الحلم علينا امتلاك خيال جديد.

الخيال الجديد وحده من يُمكن أن يجعل البلاد تُغيّر وجهتها من الماضي نحو المستقبل. الخيال الجديد وحده من يُمكنه إنقاذ المستقبل من التلاشي. وعكس الماضوية، الخيال الجديد لا يلغي وجود المستقبل. الغد سيكون مُدرجًا على قائمة مواعيد الجزائريين. الخيال الجديد مُهم اليوم، لأنّ مساحة الفعل تقلّصت من قبل أزمة وباء كورونا. صحيح أن الحراك استمر بعد انتخابات 12 ديسمبر 2019، لكنّه عجز عن أن تكون حلوله عملية أكثر. الحراك الذي انطلق في 22 فيفري جاء ليُوَسِّع ميدان المُمكن، بعد أن ظلّت ضيّقة لعقود، بل ومنعدمة في أغلب الأحيان. 

والطبقات الشعبية هي من وسَّعت ميدان المُمكن، وفتحت باب الفعل، بجماهيرها العريضة الخارجة من المساجد والملاعب. أهازيج وأغاني الألتراس هي من فتحت الشارع، وهي من جعلت الفعل مُمكِنًا. واستمرّ الحراك لأزيد من سنة، ولكن الخيال عازَنا أكثر من مرّة. كان الجزائريون يتحرّكون بإحداثيات قديمة، بأفكار قديمة أخذت صبغةً جديدة انهارت سريعًا. لم نشاهد باحثين يقومون بعملهم لشرح كيف خرج الجزائريون، وكيف جاءت السلمية وكيف عملت هذه الانتفاضة الشعبية مثل خلية نحل… لم نشاهد الصحافة تقوم بعملها في نقل قصص الناس، اكتفت فقط بصفحات أولى “جريئة” تساند المظاهرات أو تشتمها أو تتجاهلها… رؤيتنا كجماعة لأنفسنا، لم تتغيّر كثيرا، وبقيت الأغلبية ترى أنّ على “الشعب” أن يتوحّد حتى يهزم “الأشرار”… كانت مساحة الفعل مفتوحة أمامنا ولكننا تحرّكنا بعقلية الماضي، من دون خيال جديد…

وما العمل الآن؟

علينا إنقاذ المستقبل. لأن التصارع حول ما مضى طيلة الوقت، يُنسينا الحاضر والمستقبل. الوقوع في فخّ سياسات الهوية العقيمة ليس حلاّ. الرغبة المجنونة في إصلاح الماضي أو إظهار “الحقيقة” الواحدة والوحيدة لن يفضي بنا إلى شيء. حتى لا نترك أمر المستقبل في يد نظام متهالك، يُقامر بالإنسان والطبيعة، ويراهن على الغاز الصخري وهو مستعدٌ لبيع آخر قطرة من خيرات هذه الأرض حتى يبقى في مكانه. علينا إنقاذ المستقبل حتى نرى الثورة كصيرورة مستمرّة وليس كلحظة مقطوعة الصِلة بالماضي والمستقبل. علينا إنقاذ المستقبل حتى نصنع بالأفق شيئا مفيدًا… حتى لا يصير المستقبل أرضًا مجهولة بالنسبة لنا… حتى لا يصير المستقبل صورة في لافتة إشهارية على جانب طريق سريع.


صدر هذا النص في كتاب “أحلم الجزائر” الذي نشرته منشورات البرزخ بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت، سنة 2021.

يمكنكم اقتناء النسخة الفرنسية للكتاب مجانا من المكتبات، أو تحميلها من هنا.