جار التحميل ...

الجزائر-فرنسا: المصالحة تمرّ عبر الصحراء

من شدة الأزمات المتكررة، تتعثر العلاقات الجزائرية الفرنسية. ولكن بإمكان بادرة مُؤَسِّسَة أن ترسم أفقا مشتركا: تنظيف المواقع الصحراوية التي أجريت فيها التجارب النووية والكيميائية، من أجل تحويل الماضي الشائك إلى مستقبل مشترك.


سكان مرتوتك. صورة لبرونو حاجيه.

منذ سنوات، تتوالى الأزمات الدبلوماسية بين الجزائر وفرنسا، وغالبا ما نتجت عن كلمة، عن فعل أو عن قرار إداري. بل إن التوترات حول التأشيرات، والخلافات حول الذاكرة الاستعمارية، والنزاعات الأخرى التي تتسبب فيها شخصيات سياسية وأخرى متعلقة بناشطين سياسيين، كل هذه الأمور العالقة بين البلدين، لا تساهم سوى في إعطاء صورة هشة حول العلاقة التي بينهما، وكأن العلاقة دائما ما تكون على شفا القطيعة والتمزق.

إن الحقيقة التي يجب رؤيتها كما هي واقعيا، أن هذين البلدين، رغم صلتهما الجغرافية، والتاريخية، لم يتمكنا من بناء علاقة هادئة ومتينة. ظلّ كلّ طرفٍ منحازًا لشكوكه وحساسياته، وكل واحد يرتكز على ضغائنه تجاه الآخر. وعليه بقيت الدبلوماسية بينهما، دون أفق واضح، تتراوح بين الأزمة والتقارب المرحلي الزائل. ما يؤكد الحقيقة الثابتة، أنه رغم كل الممكنات المدهشة التي تكتنزها هذه العلاقة، لم تزل تراوح المكان ذاته حتى تبطل كل الجهود الدافعة بها نحو أفق أرحب، أفق التعاون والازدهار، والاستقرار الإقليمي.

وللخروج من هذه الحلقة المفرغة، لم تعد الزيارات الرئاسية المتبادلة، أو الاتفاقيات التجارية الموقعة أو الوعود المنثورة في الفضاء المشترك بين البلدين بين الحين والآخر، كافية. الوضع اليوم يستلزم المشي نحو قرار مُؤسِّسْ يُخاطِب الذاكرة والكرامة والمستقبل. أين لا يمكن لأحد منهما أن يشعر بالإهانة، بل على عكس ذلك، أين يوضع الطرفين في موضع تعاون ومسؤولية وفائدة مشتركتين.

هذه البادرة موجودة وإمكانها قريب من التجسد، وهي: التنظيف المشترك للمواقع الملوثة بالتجارب النووية والكيميائية التي سببتها فرنسا بين عامي 1960 و1966.

الأماكن معروفة -رقان وإن أكر وأماكن أخرى في الجنوب الجزائري- ولكن الحقيقة بقيت طويلا حبيسة الصمت والإنكار. في تلك الحقبة، لجأت فرنسا إلى صحراء الجزائر، كي تجرب تفجيراتها بعيدا عن أنظار العالم، عدا أن نتائج تجاربها وقعت على السكان المحليين، العسكريين منهم والتقنيين، سواء كانوا بدوا رحلا أم من قاطني الواحات، ولا زال الكثيرون منهم إلى اليوم، يعانون من ندبات هذه التجارب النووية وتلوثها الكيميائي، دون اعتراف رسمي، أو رعاية صحية ملائمة.

خطة واقعية وشفافة وبتمويل مشترك

إن إطلاق برنامج ضخم ومشترك لإزالة التلوث وإعادة التأهيل، لن يمكن باريس والجزائر من تسوية النزاع فحسب: بل سيمكنهما أيضا، من إرسال رسالة الحقيقة والشجاعة السياسية. وسيكون ذلك بمثابة اعتراف، على أعلى مستوى، بأن التاريخ الاستعماري ليس مجرد موضوع للذاكرة المجردة، ولكن واقعا ترك جروحا عميقة ودامغة في البيئة والبشر.

يمكن للمشروع أن ينطلق من ميزانية أولية قدرهابضع مئات ملايين يورو، تتحمل فرنسا الحصة الأكبر منها بحكم أنها المسؤولة عن التجارب النووية. ومن جهة أخرى، فإن مساهمة الجزائر فيه، ستكون تأكيدا على سيادتها وسلطانها في أراضيها. كما أن إشراك أطراف آخرين، مثل الإتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، والمنظمات البيئية المانحة، في العملية، من شأنه إكمال الجهود.

ويمكن للمشروع أن تتعدد محاور عمله، كأن تتضمن نشر خرائط إشعاعية شاملة، إزالة التلوث وعزل التربة الملوثة، إنشاء مراكز مراقبة طبية للسكان المعرضين للإشعاعات، إنشاء معهد صحراوي للذاكرة وإزالة التلوث، وفي الوقت نفسه يكون مختبرا علميا ومركز توثيق ومتحفا.

هذا البرنامج، سوف يمنح شركات جزائرية وفرنسية، فرص عمل وتوظيف للسكان المحليين، وسوف يدرب جيلا من الباحثين والمهندسين الصحراويين الشباب، وسوف يحول المناطق التي دائما ما كانت في الأذهان رديفة للخطر والسرية، إلى مساحات للمعرفة والصحة والتعاون.

بالنسبة للجزائر، فإن مشروعا كهذا، سيكون بمثابة ضمانة بأن المعاناة التي يعانيها مواطنوها لن تتجاهل بعد اليوم. وسيكون ذلك أيضا اعترافا باستعادة للسيادة والكرامة. أما بالنسبة لباريس، فهذه فرصة للانفصال عن الشكوك الدائمة تجاه إنكارها موضوع الذاكرة الاستعمارية، وفرصة أيضا لتحمل المسؤولية دون إذلال، وفي إطار شراكة واضحة.

وهكذا بعيدا عن ثنائية التوبة أو النسيان، فقط بإرادة التعامل مع العواقب الواقعية لإرث تاريخي. سيتجاوز المشروع منطق الاتهام أو التبرير. من أجل أن يفتح طريقا جديدا: طريق الإصلاح المشترك، والمتطلع نحو المستقبل.

أقوى من الخلافات

ولا بد من القول: أن العلاقات الفرنسية الجزائرية، غالبا ما تختزل في قضايا تقنية أو أزمات ظرفية، مثل عدد التأشيرات، أو أوضاع ناشطين سياسيين، أوتصريحات تؤول خطأ. وهكذا كل شيء يصبح أصلا من أصول مواجهة تكون أحيانًا غير متناسبة حد المبالغة. وهذه الخلافات تستنزف الرأي العام وتغذي خطابات الغموض وعدم الثقة.

مشروع تنظيف التلوث النووي والكيميائي في صحراء الجزائر، من شأنه أن يغير الدفة، وأن يلزم البلدان على العمل معا، ولفترة طويلة، مما يحقق نتائج واضحة وملموسة. ومن شأنه أيضاً أن يرسل إشارة إلى المجتمع الدولي: إن الجزائر وفرنسا قادرتان، على الرغم من ماضيهما المؤلم، على التعاون تعاونا محوريا، في مجال العدالة البيئية والصحة العامة.

في العمق، ما تفتقر إليه العلاقة الجزائرية الفرنسية، هو أفق مشترك. أفق يتجاوز بوادر الذاكرة المعزولة، والشراكات الاقتصادية المتقطعة، والتعاون الفني العرضي، بوادر كلها لم تكن كافية لخلق هذه الديناميكية. ومن ناحية أخرى، يمكن للصحراء أن تجسد هذا الأفق، لا بمثابة صحراء ملوثة بإشعاعات من الحقبة الاستعمارية، بل بمثابة رمز للمصالحة النشطة والمفيدة والدائمة.

لقد حان الوقت لأن يتجاوز مسؤولو البلدين المظاهر، وأن يؤصلوا لمسار مؤَسِّسْ ينتظره الملايين من أبناء الجالية ومزدوجي الجنسية. مسار ستطالب به الأجيال القادمة. وسيجسد تنظيف المواقع النووية والكيميائية في الصحراء الكبرى، هذا المسار الجديد. وسيكون في الوقت ذاته واجبًا أخلاقيًا، مسؤولية تاريخية ووعدًا بمستقبل أفضل.

من هنا، يمكن أن تنطلق، أخيرا، علاقة متصالحة.