فرّ يوسف فرح وأبناؤه من بلدتهم يارون جنوب لبنان، في 9 تشرين الأول/ أكتوبر، ولم يعودوا منذ ذلك الحين، ترك وراءه المنزل الذي بناه عام 1988، وأسس فيه عائلة.
“كنا نحلم أن نعيش حياة طويلة وجميلة في يارون”، يقول فرح البالغ من العمر الآن 66 عاماً: ” بنيتُ منزلي بيدي الاثنتين، الآن إذا كان بإمكاني بيعه، فسوف أفعل ذلك في لمح البصر”.
نزح فرح من يارون إلى منطقة أكثر أمناً، ولا يعلم متى يمكنه العودة، خصوصاً أن يارون هي بلدة حدودية، وتتعرض لقصف إسرائيلي مكثف، دمر قسماً كبيراً من بيوتها ومبانيها.
أدت الحرب المفتوحة بين إسرائيل و”حزب الله” في جنوب لبنان، إلى نزوح نحو مئة ألف جنوبي منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول، وخلفت نحو 400 قتيل ما بين مدني ومقاتل، وقرابة ألف جريح، وتدمير واسع لآلاف المنازل في القرى الحدودية، وحرق آلاف الدونمات من المساحات الزراعية.
القلق من استمرار الحرب يخيم على الجميع، خصوصاً مع توسع الأهداف وتصاعد لهجة التهديد الإسرائيلية بشن عملية موسعة ضد لبنان.
البروباغندا الإسرائيلية تكرر نشر تهديدات من نوع إعادة لبنان إلى العصر الحجري، أو تدميره كلياً وتدمير بناه التحتية، والكثير من العبارات التي يحاول فيها قادة إسرائيل الإيحاء بامتلاكهم شهية مفتوحة لضرب لبنان، والانتقال إلى حرب موسعة.
هل التهجير قدرُ الجنوبيين ؟
فرح مزارع مثل معظم سكان الجنوب، يزرع البامية في مواسمها ويستثمر بالزيتون الذي يملكه، وينفق من خلال عمله هذا على تعليم أبنائه في الجامعة، وبسبب الحرب والنزوح، لم ير أرضه منذ أكثر من ٧ أشهر، ومنذ ذلك التاريخ، لا يعرف حتى كيف حال الموسم الزراعي، وما إذا كانت الأشجار التي كان يعتني بها منذ عقود، قد نجت من الغارات الإسرائيلية وقنابل الفسفور الأبيض.
الأمر مماثل بالنسبة لسارة التي نزحت من النبطية، وهي سريعاً ما تغلبها الانفعالات، حين تتذكر كيف أُجبرت على مغادرة منزلها “باعتباري مواطنة من الجنوب، أستطيع أن أقول لك بصراحة، ليس من السهل علينا أن نترك أرضنا”.
تكرر نزوح أهل جنوب لبنان من منازلهم و قراهم في العقود الخمسة الأخيرة، آخرها كان خلال حرب تموز/ يوليو عام 2006، واضطرت سارة يومها إلى النزوح، وتتذكر “في عام 2006، وقبل أن تصبح الهدنة رسمية، هرعنا جميعاً إلى بيوتنا، لا كهرباء ولا ماء، كل ما أردناه هو العودة…هذا هو مدى تعلقنا بأرضنا”.
أبناء يوسف فرح، الذين يقاربون عمر سارة تقريباً، يحلمون بقضاء حياتهم في يارون، ويشاركون والدهم الأمل نفسه، عندما بنى منزله لبنة لبنة، بغض النظر عن أنه غير رأيه اليوم.
“ماذا لدي هناك؟”، سأل فرح، مردفاً: “في بلدة يتم تهجيرك منها، كل بضع سنوات، وفي بلد لا يعتني بك عندما تكون في هذا الوضع”.
“في عام 2006، وقبل أن تصبح الهدنة رسمية، هرعنا جميعاً إلى بيوتنا، لا كهرباء ولا ماء، كل ما أردناه هو العودة…هذا هو مدى تعلقنا بأرضنا”.
“تسريات المطار” و”النفعية الأنانيّة”
آخر مراحل التصعيد كان التسريب الإعلامي الأخير لصحيفة “التليغراف” البريطانية، أن “حزب الله” يخزن أسلحة في مطار بيروت، وهو ما سارعت الحكومة اللبنانية إلى نفيه، ودعت سفراء وجهات دبلوماسية وصحافيين إلى جولة ميدانية في مباني المطار، لدحض المزاعم .
ومع تصاعد التهديدات، وتزايد المخاوف من ضربة اسرائيلية واسعة، يتضاعف الانقسام الداخلي في لبنان، وترتفع أصوات شرائح واسعة، خصوصاً بين الأحزاب المسيحية وداخل بيئاتها الحاضنة، تعلن رفض انفراد “حزب الله” بقرار الحرب والسلم ، وجعل جنوب لبنان ساحة إسناد للتخفيف عن أهل غزة، كما قال الأمين العام للحزب في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، معلناً فتح جبهة الجنوب.
كل هذه التعقيدات جعلت مناخاً عاماً من الانقسام يخيم على البلد، الذي يعيش عدد كبير من سكانه في منطقة الجنوب، ويواجهون حرباً طاحنة، أجبرت عدداً هائلاً من السكان إما على النزوح وإما على العيش تحت تهديد الموت في أية لحظة، بصاروخ اسرائيلي، في المقابل تحاول مناطق أخرى في لبنان، تجاوز الأزمة التي يغرق فيها البلد، من خلال محاولة الترويج لصيف سياحي واعد، قد يحرك العجلة الاقتصادية المنهارة.
أدى هذا، إلى جانب تركيز الهجمات الإسرائيلية على مناطق محددة، إلى انقسام حاد، وانقسام اللبنانيين إلى معسكرين تقريباً: معسكر الذين يرون أن “حزب الله” جر البلاد إلى حرب غير ضرورية، ومعسكر الذين لا يخالفون هذا الرأي ويرون الأمر دفاعاً مشروعاً عن النفس وعن فلسطين.
هذا الانقسام عكسه بوضوح التصريح الأخير لنائب “حزب الله” محمد رعد الذي انتقد فيه معارضي الحزب، بما وصفه بـ”النفعية الأنانية” لبعض اللبنانيين “الذين يريدون أن يرتاحوا، وأن يذهبوا إلى الملاهي وإلى شواطئ البحار، وأن يعيشوا حياتهم”.
معضلة “دويلة” حزب الله
زياد عبد الصمد، المدير التنفيذي ل”شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية”، يناقش المعضلة التي يعيشها لبنان منذ انتهاء الحرب اللبنانية عام 1991، أي معضلة الدويلة التي يمثلها “حزب الله” ضمن شبه دولة ونظام مركزي فاقد للسلطة الفعلية، ويقول: “الدولة هي مزيج من السلطة والشعب…السلطة السياسية للدولة تنقسم إلى سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وعندما تمارس قوة سياسية قرارات معينة وتتهرب من العواقب خارج هذه السلطات، فإنها تجعلها بالية بلا قيمة”.
وعلى الرغم من أن هذا الاختلاف ليس جديداً على لبنان، إلا أن الوضع الحالي يؤثر على سكان الجنوب، بطريقة لم يشهدوها في الحروب السابقة.
يتذكر فرح :”في عام 2006، هربنا من يارون ولجأنا إلى دير في برمانا، حيث كان الجميع هناك طيبين للغاية معنا، لدرجة أنهم ساعدوني في العثور على عمل يومي. اليوم، الأمر مختلف، تشعر وكأنك ستتعرض للضرب في الشارع إذا قلت مرحبا”.
“اضطررت أنا وزوجتي إلى استئجار غرفة لنقيم فيها في شرق صيدا”، يقول علي* البالغ من العمر 82 عاماً، الذي لم يعد يحصي عدد المرات، التي فر فيها من بلدته في جنوب لبنان، بسبب الحروب الإسرائيلية.
ويضيف: “الإيجار 300 دولار شهرياً، وأعتمد على ابني في تسديده، النازحون الذين يدفعون الإيجار يدفعونه بالدم والعرق والدموع”.
في بلد مثل لبنان، مع ضعف الدولة وانهيارها، يضطر الناس إما إلى الاعتماد على بعضهم بعضاً، أو على مساعدات المغتربين في بعض الأحيان، وإما في أغلب الأحيان، إلى الاعتماد على دعم الأحزاب السياسية.
يقول علي: “لكي تحصل على مساعدة مالية أو دعم، عليك أن تنتمي إلى حزب ما، وهذا يعني أن تؤمن بمعتقداته الطائفية، وأنا لا أتفق مع ذلك، أنا أحب بلدي، أحب أرضي”.
ولهذا السبب، فإن سكان الجنوب من الذين لا ينتمون إلى أي حزب سياسي، ليس لديهم من يلجأون إليه في مثل هذه الظروف إلا لبعضهم بعضاً.
يروي علي: “قبل بضعة أيام فقط، جاء أحد الجيران من قريتي لزيارتي في صيدا، وأحضر لي كيسين من السكر، وفي المقابل أعطيته ثلاث علب من المعكرونة”.
وفي حين أن المشاركة المجتمعية تعتبر قيمة إيجابية في المدينة، إلا أنه لا بد من الإشارة إلى أن سكان الجنوب اضطروا إلى مقايضة ممتلكاتهم بسبب فقدانهم حقهم في العيش في منازلهم.
يوضح عبد الصمد “الناس لا يفقدون منازلهم وذكرياتهم فحسب، بل يفقدون وظائفهم وسبل عيشهم أيضاً، في حين أن تنظيم جهود التعويضات هو مسؤولية القوى التنفيذية، فمن الذي يدفع غير حزب الله؟”.
ويشير إلى أن: “دفع التعويضات هو مثال آخر على تولي حزب الله دور الدولة، الأمر الذي بدوره يعيق آليات المساءلة، وهذا يحول الموقف إلى موقف لا ينتهي أبداً، ويميل إلى الاستمرار في تكرار نفسه”، لافتاً إلى أن “حزب الله يعلم أن القيام بذلك، هو ما يبقي شعبه ملتزماً”.
على الرغم من أهمية تسليط الضوء على الصعوبات المالية التي يواجهها النازحون من جنوب لبنان، يبدو أن الكثيرين يفتقدون النظر إلى القضية، من خلال عدسة الرعاية والتعاطف.
“لقد دمرت المنازل، لكن هل هذا حقاً كل ما فقدناه؟” يسأل عبد الصمد: “يتم دفع التعويضات، ولكن من يستطيع أن يدفع ثمن خسارة منزل ممتلئ بالذكريات؟”.
يروي علي: “عندما هربنا، لم يكن لدى أحد الوقت لحمل أي من مقتنيات المنزل، لدي متجران للأجهزة ولم أتمكن من إخراج أي شيء منهما، ليست الجدران فقط هي التي يتم تدميرها”.
لكن رغم ذلك عندما سألناه: “لو أتيحت لك الفرصة هل ستعود إلى بيتك؟”، أجاب: “العودة بأمان، إنها حلم”، وسارع إلى القول: “أريد العودة إلى منزلي حتى لو قتلني ذلك”، وأضاف: “لن نتخلى عن أرضنا أبداً، أسلافنا عاشوا وماتوا هنا، وكذلك نحن، هذه بلادنا”.