في أمسية دافئة في شهر أيار/ مايو من العام الماضي، اختفت سفينة شحن ترفع علم جزر القمر تدعى قبرصلي-واي Kubrosli-y من أنظمة التتبع الالكتروني للسفن قبالة سواحل تركيا. بعد أسبوع ظهرت بالقرب من قبرص قبل أن تواصل طريقها لترسو في أوكرانيا.
لا تقدم بيانات التتبع أي علامة على مكان تواجد قبرصلي-واي Kubrosli-y خلال ذلك الأسبوع. لكن الصور التي نشرتها وكالة حكومية سورية للأنباء قبل يومين من ظهورها مرة أخرى كشفت عن غير قصد الأسباب التي جعلت طاقمها حريصا على إخفاء موقعهم.
وتظهر إحدى الصور، التي نشرت على فيسبوك، وزير النفط والمعادن السوري بسام طعمة واقفا داخل ميناء طرطوس المطل على البحر المتوسط. وتظهر صورة أخرى سفينة قبرصلي -واي Kubrosli-y راسية على رصيف مزدوج في الميناء الذي تم بناؤه خصيصا لتحميل الفوسفات، وهو معدن ثمين شكل شريان حياة اقتصادي رئيسي لنظام الرئيس بشار الأسد الخاضع لعقوبات اقتصادية منذ بدء الحرب عام 2011.
تمتلك سوريا بعضا من أكبر الاحتياطيات المعروفة من مكون الأسمدة الذي يتم البحث عنه بشكل متزايد ، وانهارت صناعة الفوسفات عندما استولى متشددو الدولة الإسلامية على أكبر مناجم البلاد في 2016 لكن الإنتاج انتعش منذ أن استعادت القوات الحكومية السيطرة عليها في العام التالي مما جذب مشترين حتى من الدول المعارضة لنظام الأسد.
توفر رحلة Kubrosli-y ،والتقنيات التي استخدمتها، لمحة عن سلسلة التوريد الغامضة للفوسفات السوري وهي تشق طريقها من المناطق التي مزقتها الحرب الأهلية إلى المزارعين في جميع أنحاء أوروبا. في كل خطوة على الطريق، تثري هذه لتجارة الدولة السورية، والمستفيدين من الحرب، والأشخاص الذين تربطهم علاقات عميقة بالنخبة الروسية.
على الرغم من مخاطر انتهاكات العقوبات، استوردت صربيا وأوكرانيا وخمسة من دول الاتحاد الأوروبي أكثر من 80 مليون دولار من الفوسفات السوري منذ 2019 وفقا ل تحقيق استقصائي لمشروع تتبع الجريمة المنظمة والفساد العابر للحدود OCCRP ومراكز صحفية شريكة في سبعة بلدان، بالشراكة مع لايتهاوس ريبورتس Lighthouse Reports و الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية (SIRAJ).
في طريقها إلى أوروبا، تمر الفوسفات عبر سلسلة من السماسرة والوسطاء باستخدام شركات بالوكالة proxy في مواقع بعيدة. بعض شركات الشحن المعنية لها صلات بتهريب الأسلحة والمخدرات ، و أشخاص متهمين بالفساد.
فرضت الولايات المتحدة الحظر على الحكومة السورية وعلى الشركة الروسية ستروي ترانس غاز Stroytransgaz التي بدت أنها تسيطر على غالبية صادرات سورية من الفوسفات.
قام الاتحاد الاوروبي ايضا بفرض العقوبات على لاعبين أساسيين: الوزير السوري طعمة ومالك شركة ستروي ترانس غاز، القطب الملياردير جينادي تيموشينكو، وحليف رئيسي للكرملين. لكن العقوبات الامريكية والاوروبية لا تمنع شراء الفوسفات السوري بصورة محددة.
لكن الخبراء يقولوا أن الشركات تواجه خطر خرق العقوبات حتى ولو كانت هذه التجارة مشروعة من الناحية التقنية. وجد تحقيق في العام 2018 لمنظمة politico الإعلامية أن اليونان تشتري الفوسفات السوري ما أثار غضب أعضاء في البرلمان الأوروبي. وتوقفت الشحنات بعد ذلك.
ستروي ترانس غاز حاولت النأي بنفسها عن هذه التجارة من خلال إصرارها على أن لا صلة بينها وبين شركتان تحملان نفس الإسم تسيطران على هذه التجارة اليوم. لكن occrp وشركائها وجدوا أدلة لم تكشف سابقا حول العلاقات بين ستروي ترانس غاز وهذه الشركات.
أدى الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط إلى تنامي الضغوط على الشركات الاوروبية لقطع علاقاتها بشخصيات روسية معاقبة مثل تيموشينكو.
وقال غلين كوروكاوا، محلل متخصص في تجارة الفوسفات في مركز أبحاث دولي يركز على سوق السلع CRU ” أن الفوسفات السوري دموي ليس فقط بسبب الصراع ولكن أيضا بسبب ما يحدث في أوكرانيا “. وتابع قائلا: ” يجب على سوريا أن تبيع (الفوسفات) من خلال منح خصم سياسي لأن بضائعها شديدة السمية في التعامل معها “.
وفي معرض السؤال عن الواردات، قالت المفوضية الاوروبية ان الأمر متروك لكل دولة على حدة لتقرر إذا ما كانت وارداتها من الفوسفات السوري تخرق العقوبات. واكدت السلطات الاوكرانية و البلغارية والصربية انها تنظر الى الأمر على أنه تجارة مشروعة. رفضت السلطات الايطالية أن ترد على طلب الصحفيين لأخذ تعليق..
وقال خبير الاقتصاد السوري كرم الشعار أن التجارة هذه تظهر سهولة الاستدارة على العقوبات الاقتصادية من خلال سلاسل توريد مبهمة أو من خلال تمرير الأموال والبضائع عبر الفروع المجهولة للشركات المستهدفة بالعقوبات.
وقال: ” بالطبع تعتبر صادرات الفوسفات السوري الى أوروبا مخالفة للعقوبات”. واضاف قائلا: “ولكن معظم الدول لا تفهم تركيبة المؤسسات التي يعاقبوها “.
الاسترجاع الاقتصادي
جينادي تيموشينكو هو واحد من أغنى وأقوى الرجال في روسيا. تعود صداقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أوائل التسعينات، عندما كان تاجراً للنفط في سان بطرسبرج. واتهم تيموشينكو بأنه واجهة لثروة بوتين الشخصية ، على الرغم من أنه يقول إنهم مجرد شركاء في لعبة الجودو.
تحول تيموشينكو الى مليارديراً من خلال عمله بشكل وثيق مع الشركات المملوكة للدولة في قطاع النفط والغاز المربح في روسيا. قامت شركته الهندسية والإنشائية، ستروي ترانس غاز Stroytransgaz، ببناء معظم خطوط الأنابيب التي تنقل صادرات روسيا من النفط والغاز، بما في ذلك خط أنابيب نورد ستريم عبر أوروبا.
رابط: للحصول على قائمة بأصول تيمشينكو Timchenko في قاعدة بيانات OCCRP الروسية المعني بتتبع الأصول، انظر هنا.
تيموشينكو أيضا أحد أكبر المستفيدين من علاقات موسكو الاقتصادية الطويلة الأمد مع سوريا، حيث فاز بعقود لبناء جزء من خط أنابيب من مصر محطتين رئيسيتين لمعالجة الغاز. بعد أن ساعد التدخل العسكري الروسي في قلب مجرى الحرب الأهلية السورية لصالح نظام الأسد، حصلت شركتان أخريان مرتبطتان ب ستروي ترانس غاز Stroytransgaz على موطئ قدم في قطاع الفوسفات – وتعتبر أحد أكثر الأصول ربحية التي لا تزال تحت سيطرة الحكومة
واحدة من الشركات، Stroytransgaz Engineering كانت شركة فرعية تابعة لشركة Stroytransgaz لغاية العام 2018 عندما يبدو أن تيموشينكو قام بخطوات للنأي بنفسه عن تجارة الفوسفات السوري. يقول الخبراء أن ذلك ربما جزء من جهد للتحايل على العقوبات الاميركية والاوروبية على سورية وايضا العقوبات التي فرضت عليه وعلى ستروي ترانس غاز بعد قيام روسيا بضم جزيرة القرم.
في العام 2018 باع تيموشينكو Stroytransgaz Engineering إلى Photon Express و Eneriya Antaresa وهما شركتين وهميتين وأصحابها غير واضحين ومقرها في العاصمة موسكو. في العام الذي تلى فازت Stroytransgaz Engineering بعطاءات لتشغيل ثلاث مصانع للفوسفات مملوكة للدولة السورية خارج مدينتي حمص وطرطوس التي تعتبر نقطة مغادرة غالبية صادرات الفوسفات السوري.
بالرغم من ابتعاد أسم تيموشينكو عن الأوراق الموقعة لهذه العطاءات، ينظر إلى الاتفاق على نطاق واسع على أنه رد على المساعدة العسكرية الروسية التي ساعدت النظام السوري في الحرب الأهلية. وفي تحليل لمجلس الشؤون الدولية الروسي، كتب إيغور ماتفييف، وهو دبلوماسي روسي سابق في دمشق، أن الصفقة ” يمكن أن تساعد في استرداد الأموال التي أنفقت على العملية العسكرية في سوريا من خلال تعدين المعادن الثمينة بشروط حصرية “.
وتصر Stroytransgaz أن لا علاقة بينها وبين Stroytransgaz Engineering.
وتقول الناطقة الرسمية بإسم ستروي ترانس غاز نتاليا كالينيشيفا للصحفيين العاملين على هذا التحقيق العابر للحدود أن ” STG Engineering كيان قانوني مستقل وليس جزء من الشركات التابعة للمجموعة. مجرد اختصار مماثل ل اسم الشركة “.
في عام 2018 ، منحت سورية شركة تحمل اسم مماثل Stroytransgaz Logistic عقداً مدته 50 عاما يمنح الشركة الروسية حقوقا في 70 في المائة من إيرادات المبيعات من أكبر مناجم الفوسفات في البلاد ، بالقرب من مدينة تدمر. ويذهب الباقي إلى الشركة العامة للفوسفات والمناجم (GECOPHAM)، وهي شركة تابعة لوزارة النفط السورية الخاضعة للعقوبات الأمريكية.
على الورق ليس لـ Stroytransgaz Logistic صلات بإسمها. فهي مملوكة لشركة مقرها موسكو واسمها UK Investfinance التي يبدو أنها خدمة مرشحة تدير الشركات لعملائها.
لكن العديد من كبار العاملين فيها (التنفيذيين) لهم ارتباطات مع Stroytransgaz ما يعني أنهم يتشاركون بأكثر من مجرد أسم.
الشخصية الرئيسية هي مواطن روسي يدعى إيغور كازاك، الذي شغل منصب مدير في ستروي ترانس غاز Stroytransgaz التابعة لتيموشينكو مؤخراً في عام 2015. في ذلك العام، قال لوسائل الإعلام السورية إن ستروي ترانس غاز Stroytransgaz ” تريد المشاركة في إعادة إعمار سوريا “، وأنه ” واثق من أنه سيكون هناك العديد من الفرص المتنوعة للتعاون “.
أصبح كازاك رئيس لشركة ستروي ترانس غاز لوجيستيكس Stroytransgaz Logistic في العام 2016 وبقي في هذا المنصب لمنتصف 2017. عمل أيضا مدير عام لشركة Stroytransgaz Engineering من 2015 الى 2020 – بعد فترة طويلة من تحولها إلى شركة جديدة.
مواطن روسي آخر، هو زاكيد شكسوفاروف، كان المدير الإقليمي لشركة ستروي ترانس غاز اللوجستية Stroytransgaz Logistic في سوريا في العام 2018، واسمه مدرج حاليا كمدير لشركة تيموشينكو الرسمية ستروي ترانس غاز Stroytransgaz – شركة فرعية في سوريا – بحسب دليل وزارة الاقتصاد للشركات الأجنبية.
بالاضافة الى الموظفين المشتركين، تتشارك Stroytransgaz Logistic و Stroytransgaz Engineering نفس العنوان مع Stroytransgaz في سورية.
لم يرد أحد على الهاتف عندما حاول الصحفيين التواصل مع الارقام المدرجة ل Stroytransgaz Logistic و Stroytransgaz Engineering للحصول على تعليق ولم يكن هناك أي أثر لهما او ل Stroytransgaz في عنوان الموقع الذي يتشاركونه.
المرتزقة والمنتفعون
لا يزال عدد قليل من السوريين يعيشون في القرى المتناثرة في الصحراء المحيطة بمدينة تدمر القديمة — وهي منطقة كانت تسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية الجهادي لسنوات عدة. وتعني الهجمات المستمرة للخلايا النائمة أنه يجب نقل العمال بالحافلات من المدن القريبة للمناجم المحلية ل حفر وشق صخور الفوسفات.
على الطريق إلى المناجم يقع المقر الرئيسي للشركة العامة للفوسفات والمناجم GECOPHAM ، وهي الشركة السورية التي تديرها الدولة والتي تمتلك وتدير مناجم الفوسفات في البلاد. وبحسب أحد الموظفين في منجم الشرقية، حيث تعمل شركة ستروي ترانس غاز لوجيستيكس Stroytransgaz Logistic فإن الشركة الروسية تسيطر على الصادرات، في حين أن العمليات اليومية لا تزال في أيدي المقاولين والعمال السوريين.
تنتج المناجم التابعة للشركة الروسية حوالي 650 ألف طن من الفوسفات سنوياً ، على الرغم من أن العقد يسمح بحفر وإستخراج 2.2 مليون طن سنوياً بحسب مسؤولين سوريين. وبمجرد استخراجها، يتم شحن الفوسفات في قوافل برية وسكك حديدية إلى مصانع الأسمدة بالقرب من حمص أو إلى ميناء طرطوس.
على طول الطريق ، يتم حمايتهم من قبل مقاولين من القطاع الخاص. ومن بين العاملين في المنطقة مجموعة فاغنر Wagner Group سيئة السمعة، المرتبطة بالنخبة الموالية للكرملين، والتي ارتبطت بمذبحة المدنيين في مالي، ويعتقد الآن أنها تقاتل في أوكرانيا.
كما أظهرت الصور المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي حللها OCCRP ، وجود شركة سورية تدعى شركة سند للحماية والأمن، يملكها رجل أعمال مرتبط بالأسد يدعى أحمد خليل، ومسؤول أمني يدعى ناصر ديب:” بدأت المجموعة حياتها ميليشيا تقاتل إلى جانب القوات السورية والروسية، وفازت بعقدها الحالي لحماية المناجم بعد طرد مقاتلي الدولة الإسلامية من المنطقة “.
كما أدت هذه التجارة إلى إثراء الطبقة الصاعدة من منتفعي الحرب. ووفقا لسجل الشركات السورية، يشارك ديب في ملكية الشركة السورية للمعادن والاستثمارات إلى جانب حليف بارز للنظام يدعى خضر علي طاهر.
كان طاهر في يوم من الأيام بائعاً صغيراً للدواجن، وأصبح قريباً من الفرقة الرابعة في الجيش السوري، بقيادة ماهر الأسد، شقيق الرئيس السوري بينما كان يدير ميليشيا في مسقط رأسه بالقرب من طرطوس. فرضت الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي عقوبات عليه في عام 2020، واتهمته بخلق ” إيرادات للنظام ومؤيديه ” بما في غسيل الأموال ” التي يتم جمعها بشكل غير مشروع في معابر النظام ومن خلال النهب “.
كما يشارك طاهر بعمق في صناعة الفوسفات، وفقا للباحث السوري عزام العلاف، الذي نشر دراسة مفصلة عن هذه التجارة لمعهد الجامعة الأوربية في عام 2019. استناداً إلى مقابلات مستفيضة مع موظفين ومسؤولين وعسكريين، ربط علاف في دراسته بين طاهر ب شركة سند وشركة إدارة تدعى صدى لخدمات الطاقة، التي تشرف على العمال في ميناء طرطوس ومصنع حمص للأسمدة لصالح شركة لStroytransgaz Logistic.
وقال علاف لـ OCCRP: ” علي طاهر وماهر الأسد يجنيان ثروات من صناعة الفوسفات وتمتد أدوارهم من لحظة مغادرة الشحنات للمنجم ونقلها عبر الصحراء، وصولا إلى محطة التصدير في طرطوس “.
ولم يرد الوزير طعمة ومسؤولي الشركة العامة للفوسفات والمعادن التابعة للحكومة على طلب الصحفيين للتعليق. ولم يتمكن الصحفيين من الوصول إلى طاهر.
سفن الأشباح
بعد مغادرة المناجم، تشق معظم الفوسفات السورية طريقها إلى ميناء طرطوس على البحر الأبيض المتوسط ، موطن القاعدة البحرية الروسية الرئيسية في البلاد. ولكن، مثل السفينة قبرصلي -واي Kubrosli-y ، لا تظهر العديد من هذه الرحلات في بيانات التتبع الالكتروني للسفن.
تابعت OCCRP وشركاؤها السفن التي قامت بتحميل عشرات الشحنات من الفوسفات من سوريا إلى موانئ في أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين عامي 2019 و2021. باستخدام سجلات الموانئ وصور الأقمار الصناعية و بيانات المصادر المفتوحة قام الصحفيون برسم خرائط سير لـ 15 رحلة بدأت من الأرصفة المخصصة لتحميل الفوسفات في ميناء طرطوس قبل التوجه إلى أوروبا.
تظهر بيانات الموقع التفصيلية المتاحة لسبع من هذه الرحلات أن السفن وعند اقترابها من طرطوس تغلق أنظمة تحديد الهوية التلقائية الخاصة بها – وهي خدمة تتبع إلكتروني تعرف باسم AIS . قبل القيام بذلك، قامت السفن بإرسال إشعاراً بأن وجهتها كانت موانئ في لبنان أو تركيا أو مصر. ثم عادوا جميعاً إلى الظهور على AIS بعد حوالي أسبوع بالقرب من جزيرة قبرص.
وقال قبطان سفينة سوري من طرطوس تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته ” لا يريد مالكو السفينة أن يعرف أحد أن سفينته قادمة من بلد خاضع لعقوبات اقتصادية مثل سوريا “.
اختفت سفينة دايتونا برايم التي ترفع علم سيراليون من أنظمة AIS جنوب قبرص أثناء توجهها إلى سوريا في 20 يناير 2019. وتظهر صور الأقمار الصناعية السفينة راسية في طرطوس بعد أسبوعين، حيث تكشف وثائق الميناء أنها زارت أرصفة تحميل الفوسفات في اليوم التالي.
وظهرت السفينة مرة أخرى على متن AIS جنوب قبرص قبل أن تصل إلى ميناء كونستانزا الروماني على البحر الأسود في 16 فبراير/شباط، وهو نفس اليوم الذي تظهر فيه السجلات الجمركية الرومانية استيراد شحنة من الفوسفات السوري.
قام ميناء طرطوس بإيقاف خدمة إظهار السجلات الخاصة بالسفن التي تزور الميناء أو تخرج في يونيو 2020، ولكن باستخدام صور مفتوحة المصدر والأقمار الصناعية يمكن تحديد شحنات الفوسفات السوري الأحدث .
اختفت سفينة شحن ترفع علم هندوراس تسمى Sea Navigator من AIS قبالة ساحل قبرص في 4 يناير ، ثم عادت متجهة شمالاً قبل الوصول إلى ميناء كونستانزا الروماني في 21 يناير. خلال هذا الوقت ، ظهرت السفينة في خلفية صورة شخصية التقطها عامل في رصيف فوسفات طرطوس والتي تم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.
تطلب المنظمة البحرية الدولية ، وهي وكالة الأمم المتحدة التي تنظم الشحن العالمي ، من السفن بث مواقع AIS في جميع الأوقات، لذا فإن السفن التي تعاني من الاختفاء مثل هذه السفينة تمثل مشكلة. إلى جانب التهديد بالتعويض والسمعة السيئة، يترك أختفاء كهذا مستوردوا الفوسفات السوري من الأوروبيين يتعاملون مع مالكي السفن يعملون على الهامش القانوني لهذه الصناعة.
أحد هذه الشركات Aminos Maritime Ltd مالكة سفينة Kubrosli-y التي رصدها الصحفيين اثناء ايقاف خدمة التتبع الالكتروني في أيار/ مايو من العام الماضي قبل أن تنزل حمولتها من الفوسفات في أوكرانيا. نفس السفينة أوصلت حمولات مشابهة الى رومانيا واليونان. رفضت الشركة المالكة والمشغلة للسفينة التعليق.
قال إبراهيم العلبي الخبير القانوني السوري الذي يتابع التهرب من العقوبات أن الأساليب المستخدمة للالتفاف على العقوبات في سوريا ستساعد على الأرجح الشركات الروسية على تجنب العقوبات الجديدة التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بسبب الحرب الأوكرانية.
وقال: ” تظهر تجارة الفوسفات السوري أسباب عدم ملائمة نظام عقوبات الاتحاد الأوروبي مع الغرض” الذي فرضت من أجله حيث يمكن التهرب من العقوبات والأمر ليس بهذه الصعوبة “.
كما أدت الشرعية المشكوك فيها لهذه الصناعة إلى ظهور شبكة معقدة من الوكلاء والوسطاء.
“أموال دية الدم”
في أحد شوارع التسوق المزدحمة في حي كنسينغتون الراقي في لندن، تم إدراج مكتب صغير فوق متجر للملابس المستعملة كعنوان لشركة بريطانية تسمى ريسالبر تريدنغ Resalper Trading.
باعت الشركة ما قيمته 450 ألف دولار من الفوسفات السوري إلى شركة برايم أورجانيكس Prime Organics الأوكرانية في أغسطس 2020 – وهي أكبر مستورد للفوسفات السوري في البلاد على مدى العامين الماضيين وفقا لسجلات الجمارك الأوكرانية. لكن ريسالبر تريدنج Resalper Trading لم يكن لديها أي أنشطة مالية في نهاية العام 2020 وأصول شهرية في نفس الشهر بقيمة 650 دولارا بحسب آخر إيداع رسمي.
ينتمي المكتب في كنسينغتون إلى وكلاء تكوين شركات Company Wizard و Quick File. وعندما اتصلت OCCRP بالأوكراني رسلان توركوفسكي، 29 عاما، والذي أسس Resalper Trading في عام 2019 ، رفض التعليق.
تضخمت واردات أوكرانيا من الفوسفات السوري من 3 ملايين دولار في 2018 إلى 15 مليون دولار العام الماضي، على الرغم من العقوبات الأوكرانية المفروضة على Stroytransgaz و تيموشينكو بسبب ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. وتدخل معظم الشحنات التي تصل عن طريق البحر عبر ميناء نيكا تيرا، الذي يملكه ديميترو فيرتاش الأوليغارشي الموالي لموسكو والخاضع للعقوبات .
قالت خبيرة العقوبات إيرين كينيون، مديرة استخبارات المخاطر في شركة ” فايف باي سوليوشنز FiveBy Solutions “، الاستشارية، إن استخدام الشركات الوهمية هو استراتيجية شائعة لإخفاء حقيقة أن الكيانات أو الأفراد الخاضعين للعقوبات يستفيدون من التجارة.
وقالت: ” على الرغم من أنك قد تكون على حق من الناحية القانونية، إلا أنك تعطي أيضا أموال الدية لنظام ينتهك حقوق الإنسان وأوليغارشية روسية خاضعة للعقوبات “.
وتوقفت واردات أوكرانيا بعد الغزو الروسي في فبراير شباط لكن البلاد ليست المشتري الوحيد للفوسفات السوري.
في صربيا، أكبر مشترٍ في أوروبا في السنوات الأخيرة، جاءت الواردات عبر شركة تعمل في مجال صناعة التجميل سابقا Yufofarm. وتظهر سجلات الشركات الصربية أن الشركة استوردت ما قيمته 29.9 مليون دولار أمريكي من سوريا في العام 2021 لكن السجلات لا تحدد المستوردات. رفضت شركة Yufofarm التعليق.
تعود ملكية Yufofarm إلى الشريك التجاري لشركة تابعة ل ستانكو بوبوفيتش Stanko Popovic ، الذي اشترت شركتة الإكسير جروب Elixir Group المتخصصة في الأعلاف، الفوسفات السوري الذي استوردته Yufofarm. الشركة الصربية Elixir هي المورد الحصري لحمض الفوسفوريك – الذي يستخدم في صنع الأسمدة والأعلاف الحيوانية – للعمليات المحلية ل مجموعة فرنسية اسمها رولييه Groupe Roullier.
لم يعلق الناطق باسم المجموعة الفرنسية على سؤال حول استخدامهم للفوسفات السوري لكنه أكد أن الشركة قامت بشراء منشأة صناعية من شركة Elixir Group.
أقر بوبوفيتش بشراء الفوسفات السوري منذ عام 1970، لكنه قال للصحفيين إن جميع معاملاته التجارية كانت ” متوافقة تماما مع القانون “. وتابع قائلا: ” لا نتعامل مع أي شركة في سوريا على أساس استيراد الفوسفات أو على أي أساس أخر “.
وقال محام بحري متحدثا لـ OCCRP دون الكشف عن هويته لأنه لم يكن مخولا بالتواصل الصحافة.: ” إذا لم يكن الشخص الذي تشتري منه البضائع خاضعا للعقوبات، فسيتم استبعادك ولن تخرق بالضرورة العقوبات بنفسك “. وخلص قائلا: ” هذه هي النسخة التجارية لعمليات غسل الأموال الدولية “.
جاءت واردات أخرى من خلال شركة تجميل سابقة تدعى يوفوفارم Yufofarm، ارتفعت إيراداتها من 10 آلاف دولار في عام 2019 إلى 12 مليون دولار في العام التالي. ويظهر سجل تجاري صربي يستند إلى بيانات الجمارك أن الشركة استوردت نحو 24 مليون دولار من المنتجات من سوريا في عام 2021، ولكن ليس ما كانت عليه. وامتنعت يوفوفارم Yufofarm عن التعليق.
إضافة لليونان، استأنفت أربع دول أعضاء على الأقل في الاتحاد الأوروبي – إيطاليا وبلغاريا وإسبانيا وبولندا – مؤخرا وارداتها من الفوسفات السوري، وفقا لما أظهرته OCCRP وشركاؤها. تظهر البيانات التجارية للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أن إيطاليا بدأت الاستيراد في عام 2020 ، وبلغاريا في عام 2021 ، وإسبانيا وبولندا في وقت سابق من هذا العام.
دخلت معظم الواردات الاوروبية من الفوسفات السوري القارة العجوز من خلال رومانيا. اغلب الشحنات تمت عبر شركتين في الشرق الأوسط: بلو جلف تريدينج Blue Gulf Trading المسجلة في الإمارات العربية المتحدة وميد سي تريدينج Medsea Trading المسجلة في لبنان وتعود ملكية كليهما إلى رجل الأعمال اللبناني عفيف نزيه عوف، الذي لم يرد على طلبات للتعليق.
في إيطاليا، يتم استيراد الفوسفات السوري من قبل Puccioni Spa، وهي شركة أسمدة إيطالية عريقة. وأكدت الشركة عمليات الشراء، لكنها قالت أنها تعاملت مع السلطات السورية من خلال وسيط وأنها لم تعمل مع ستروي ترانس غاز Stroytransgaz. وامتنعت عن ذكر اسم الوسيط.
في بلغاريا ، يتم استيراد الفوسفات السوري من قبل شركة بلغارية صغيرة تسمى Fertix EOOD تأسست في عام 2017. يتمتع مديرها التنفيذي رادوستين راديف بعلاقات عميقة في قطاع الزراعة في بلغاريا ، بعد أن بدأ حياته المهنية في Agropolychim ، أكبر منتج للأسمدة في البلقان.
وقال راديف إنه باع بعض الفوسفات السوري إلى يوروكيم أجرو بلغاريا EuroChem Agro Bulgaria التابعة لمجموعة يوروكيم إيه جي Eurochem Group AG والمرتبطة بالملياردير الروسي أندريه إيجورفيتش ميلنيشينكو. وضعت بريطانيا والاتحاد الأوروبي ميلنيشينكو على لائحة عقوباتها لدعمه حرب روسيا على أوكرانيا ، وانسحب ميلنيشنكو مؤخرا ًمن مجلس إدارة الشركة و كمستفيد ” رئيسي ” منها.
تتنامي تجارة الفوسفات السوري هذه الأيام بالرغم من عديد التعقيدات السياسية.
وقال سيرجيو موسكالينكو، مدير مصنع Dnipro Mineral Fertilizer Plant ، وهي شركة أوكرانية تستخدم الفوسفات السوري أن طريقة الإستيراد المواد عملية. وقال : ” انظر، نحتاج أن نأكل “. ” ولكي نأكل علينا تزويد التربة بالأسمدة، ولكي نفعل ذلك علينا شراء المواد الخام. لشراء المواد الخام علينا للأسف الالتفات الى … “. وتوقف موسالينكو عن الحديث قليلا ثم استطرد قائلا: ” نأخذ أي فوسفات يعرض علينا “.
بقلم: محمد بسيكي (SIRAJ)، أوليغ أوغانوف (مركز ميكولاييف للصحافة الاستقصائية)، شارلوت ألفريد وبشار ديب (لايتهاوس ريبورتس)، لارا دعمس (OCCRP)، جوفانا توميتش (CINS)، نيكولاي مارشينكو (Bivol)، لورينزو بانيولي (IRPI)، آنا بويناريو (RISE).
شارك في إعداد هذا التحقيق الاستقصائي كل من: إيفا كونستانتاراس (لايتهاوس ريبورتس)، هالة ناصر الدين، (موقع درج اللبناني) و آدم شمس الدين (تلفزيون الجديد في لبنان)، وهيرفي شامبونيير (لو تيليجرام)، أيمن مكية، أحمد عبيد، أحمد حاج حمدو (وحدة سراج).