بالنسبة للكثير من المتفوقين في شهادة البكالوريا، ومنذ عقود، غالبًا ما يكون الخيار محصورًا بين تخصصين: كلية طب أو المدارس العليا للإعلام الآلي. واحدة لمداواة وصيانة البشر والثانية لتسيير وتأمين الأنظمة والبرامج التي تسطّر حياة البشر. وبين المدرسة الوطنية العليا للإعلام الآلي بواد السمار، العاصمة، التي تأسست منذ نهاية الستينيات، والمدرسة العليا للإعلام الآلي بسيدي بلعباس، غرب البلاد، تحاور “توالى” عددا من الطلبة والطالبات، حاليين وقدامى لمدارس النخبة في الجزائر، تسألهم عن واقعهم اليوم وتطلعاتهم المهنية والمعيشية كمهندسين حاليين أو مستقبليين في قطاعٍ حيوي وضروري على كل المستويات، وعن الهجرة، التي صارت جوابًا قطعِيًا بعد أن كانت سؤال.
من سيدي بلعباس..
في مقر نادي “آلفا بيت” للمدرسة العليا للإعلام الآلي بسيدي بلعباس، وفي يوم 19 ماي 2022، التقيتُ فراس الذي لا تترك عيناه شاشة حاسوبه إلا فيما ندر.
لم يُتم فراس شانع، الذي جاء من ولاية سكيكدة، سنته الأولى في المدرسة إلا أنه بدأ بالتخطيط للاستقرار في فرنسا ليواصل دراسته في مجال الأمن السيبري. ” بالجزائر، حتى مع شهادة مهندس إعلام آلي، ليس مضمونًا أن تجد عملا يوافق تطلعاتك “، يخبرني. في المدرسة العليا ببلعباس يتابع الطلبة دراستهم على مدار خمس سنوات، سنتان تحضيري وسنة جذع مشترك ثم سنتان أخيرتان للاختصاص. ” عدد كبير من الطلبة يفضلون الاستقرار في الخارج لتطوير الاختصاص. قبل إنهاء دراستهم هنا، يتدبرون أمرهم للعمل ومواصلة الدراسة “، يشرح لي هذا الشاب الصغير.
مؤخرا، هاجر زملاؤه الأكبر سنا، من السنة الثانية والثالثة. الأغلبية تذهب إلى فرنسا، حيث لا يوجد عائق اللغة: ” زِد على مسألة اللغة، حقوق التسجيل ليست مكلفة.”
حسب فراس، تكون المصاريف في حدود 700 – 800 أورو للتسجيل، دون بقية التكاليف المرتبطة بالسفر والفيزا. وهذا أرخص بكثير من إنجلترا مثلا حيث تصل حقوق التسجيل إلى 3000 – 4000 أورو.
أما بالنسبة لسلسبيل لقاف، 21 سنة، طالبة سنة رابعة بنفس المدرسة، فهناك ما تسميه بـ ” مناطق الراحة ” و ” الأنظمة الرقمية المتطورة ” لتشرح لنا الأسباب التي تدفع مهندسي الإعلام الآلي الجزائريين للهجرة من البلاد. تقول سلسبيل، التي جاءت من ولاية جيجل، أنها تريد مواصلة دراسات ما بعد التخرج في إحدى بلدان الخليج أو كندا. ” لا توجد بلدان أخرى تمنح فرص مهنية أو تكوين ما بعد التخرج مثل هذه البلدان. يمكنني أن أضيف مصر والمملكة السعودية. لأنهما عكس الجزائر تتوفران على أنظمة رقمية متطورة تمكنك كمهندس من التطور حسب طموحاتك وفي تخصصات تناسبك.”
مع محاورة عددٍ من الطلبة، اكتشفنا أن احتماليات الهجرة والوجهات تزايدت وتنوّعت، فالذهاب إلى فرنسا أو كندا وأمريكا متوقّع ومفهوم بحكم تطور سوق العمل والفرص والدراسة في هذه البلدان، لكن الذهاب نحو وجهات عربية مثل مصر والسعودية، للدراسة والعمل، فهذا يعني أن هذه الدول –رغم أوضاعها السياسية والاقتصادية- عرفت كيف تفتح نوافذ لم نفتحها نحن في الجزائر.
لكن قبل الانطلاق في كل هذه الخطط، عليك تحصيل المال تقول سلسبيل التي تعمل كمُطوِّرة ويب حرّة، ومثلها يعمل الكثيرون ممن لا يستطيع أهاليهم توفير مصاريف الدراسة والسفر إلى الخارج.
أما بالنسبة لأشواق شريف، 22 سنة، ” إذا ما كان عليّ أن أختار وجهة، فستكون فرنسا لأسباب عملية واقتصادية. فالجامعات الفرنسية تقدم تعليما ذا جودة وشهادةً معترف بها. وحقوق التسجيل ليست باهضة الثمن “.
بالنسبة لها، فرص التوظيف للمهندسين المتخرجين حديثا في الجزائر لا تتواجد سوى على مستوى المدن الكبرى مثل العاصمة أو وهران.. وليست، في أغلبها، فرصًا تساعدك على التطور وتثمين ما تعلمته.
” مهندس الإعلام الآلي في الجزائر لا يقوم سوى بتطوير المواقع والتطبيقات. ولا يوجد اهتمام بمجالات مثل الأمن السيبري والأنظمة المعلوماتية والشبكات. في الخارج، هناك فرصٌ كثيرة للمهندس كي يتخصص في مجالات معينة، ويحصل على عائد مادي كبير، إذا ما كان موهوبًا طبعًا. هنا، يعمل أغلب الوقت خارج تخصصه ويجد نفسه يقوم بعدّة مهام في نفس الوقت.”
لازال أمام أشواق سنة أخيرة في مدرسة سيدي بلعباس حتى تتحصل على شهادتها. أنهت مؤخرا تربّصها المؤسسي الأول في وكالة تأمينات بولاية غليزان، وهي لا تشعر أن العمل المكتبي الروتيني هو ما تريده لمستقبلها المهني. ” أريد مواصلة دراسات الدكتوراه في فرنسا، لاحقًا ربما سأعود إلى الجزائر وأطلق مشروعي الخاص. بعد أن يتمكن المهندس من تأمين استقلال مادي، يمكنه التفكير بوضوح في ماذا يريد فعله والوسائل اللازمة لذلك “، تشرح أشواق.
أما بخصوص تمويل الدراسة، فبالنسبة لأشواق هناك المواقع والمنصات التي تمنح فرص عمل حر (فريلانس)، وكل الطلبة في المدرسة يعرفون هذه العناوين. وحسب ما سمعته من الطلبة فإن متوسط سعر ساعة من العمل هو 5 دولار، والمنصات عديدة، منها: المستقل، فيفر، فريلانسر أو آبوورك.. تقول أشواق: ” الطلبة الذكور يخصصون عطلهم لهذه الأعمال، وعندهم الوقت للقيام بتطوير البرامج والأنظمة.. عكس البنات، أو على الأقل اللواتي أعرفهن، العمل الحر ليس منتشراً بينهن “.
وحسب أغلب الطلبة الذين حاورتهم “توالى” فإن أغلب المهندسين المستقبليين، والذي يعملون الآن كفريلانسرز، يستعملون وسائل دفع رقمية لتحصيل أجورهم، مثل بايسيرا ووايز.
أما على الجهة الثانية بخصوص سؤال الهجرة/البقاء، فقد التقينا بحفصة بوغنيم، طالبة سنة رابعة، تخطط للعمل والعيش في الجزائر، في تلمسان بالقرب من أهلها. ” أفضل البقاء في تلمسان الآن. هناك فرص توظيف مهمة بالنسبة للمهندسين مثلي وأشعر أن الأمور تتحسن في الجزائر “، تقول حفصة.
.. إلى العاصمة
يخبرني بهاء الدين، 29 سنة، أن سنوات الدراسة في المدرسة الوطنية العليا للإعلام الآلي كانت ضاغطة ومشحونة وبقدر ما أعطته تكوينًا ساعده على خوض مغامرة الدراسة بالخارج، بقدر ما جعلته يفهم أن لا مستقبل مهني يناسب طموحاته ينتظره خارج أسوار المدرسة.
تخرج بهاء الدين من واد السمار، 15 كلم شرق وسط العاصمة، سنة 2017 بشهادة مهندس إعلام آلي بعد خمس سنوات قضى آخر اثنين منها في تخصص “نُظُم المعلومات” وفي نفس صيف التخرج سافر لمواصلة دراسته في ” المعهد الوطني متعدد التقنيات – غرونوبل ” بفرنسا. هناك قضى سنةً ماستر بحثي في ” إدارة الابتكار التكنولوجي MIT “. يقول بهاء الدين: “تجربة الدراسة والعمل في فرنسا كانت مثل الانتقال من الأبيض والأسود إلى الألوان “.
ومنذ 2018 انضم الطالب السابق للمدرسة الوطنية للإعلام الآلي إلى شركة خدمات رقمية تعمل على مشاريع لمجمع فرنسا للكهرباء (EDF)، مما فتح له آفاق عملية “تليق بالقرن الواحد والعشرين”، حسب تعبيره؛ وهذه الجملة كانت جوابه أيضًا عندما سألته عن سبب السفر والهجرة، قال أنه في الجزائر تعب من تضييع الوقت في أسئلة تقنية تجاوزها الزمن وليس هناك رغبة في حلّها نهائيًا.
تأسست المدرسة الوطنية العليا للإعلام الآلي، والتي يسميها الناس اختصارا بـ ENI أو باسمها القديم عندما كانت معهدًا وطنيا INI، نهاية الستينات كمركز للدراسة والبحث في الإعلام الآلي وبُنيت على مساحة شاغرة بواد السمار ظهيرة جامعة العلوم والتكنولوجيا هواري بومدين. في الثمانينات تغير وضع المركز ليصير المعهد الوطني للإعلام الآلي، ثم في 2008 حملت اسمها الحالي كمدرسة وطنية عليا. في السنة الجامعية 2012/2013 مثلا لم يتجاوز عدد طلبة كل السنوات الدراسية 500 طالبًا؛ أما في 2017 فقد تضاعف هذا العدد ليصير 1051 طالبًا.. فهل يعني تضاعف عدد الطلبة تضاعفًا لمناصب الشغل في الجزائر؟
على الورق يمكن القول أن تضاعف العدد يأتي أيضًا من زيادة عدد الناجحين في البكالوريا، ففي 2012 كان عدد الناجحين 230 ألف، أما في 2017 فقد كان أزيد من 340 ألف..
وجدتُ أمينة وغليسي، 19 سنة، طالبة سنة ثانية في المدرسة، منهمِكةً في التحضير لاجتياز السنة الثانية التحضيرية. بعد حديث قصير عن جدول توقيت المواد والدراسة سألتها لماذا اختارت المدرسة، ” بالنسبة لي كان إما هذا الخيار أو كلية الطب.. والدتي كانت تريد أن أدرس طب.. أما أنا فكنت أريد أن أدرس في تخصصا يحترم معدلي في البكالوريا (16/20) ويمكنني من العمل في مجالٍ أحبه.. الجيد مع الإعلام الآلي هو أنك تستطيع العمل مع الجميع، أنت مثل حقيبة الإسعافات.. لا غنى عنك في أي مجال.. وهذا ما قلته لوالدتي، سأكون مثل الطبيب، أستدعى في المواقف الصعبة لكن من غير دماء ولا موتى “.
مثلها، مثل طلبة سيدي بلعباس وبقية الجامعات والمدارس، تبدأ أمينة باستكشاف عالم الفريلانس، تريد تجريب يدها في مجالها. أسألها عن الهجرة للدراسة في الخارج، فتجيب أن الجميع هنا –وفي بقية المدارس العليا القريبة- يفكر في الأمر، والأغلبية تبدأ خطوات التقدم للدراسة في فرنسا عبر ” كومبوس فرانس ” (الوكالة الفرنسية المكلفة بالترويج للتعليم العالي والتكوين المهني بالخارج)، وهل أنت مهتمة بهذا، أسألها. تقول ” أختي الكبرى درست هنا، وسافرت منذ سنتين.. هي أيضا لم تختر الطب، أنا أجّلت التفكير في موضوع الهجرة.. قلت سأنهي سنواتي الأولى ثم أرى ما يمكنني فعله. “
شهيناز، أخت أمينة، عمرها 25 سنة، وهي تعمل في فرنسا منذ عام. هي أيضا سافرت بعد خمس سنوات والتحقت بنفس معهد مدينة غرونوبل الذي درس به بهاء الدين، تخبرني في رسالة على مسنجر أنها اختارت تخصص “ماستر عملي” متعلق بالأمن السيبري والكوداج، مما ساعدها على إيجاد عمل مباشرة بعد تخرجها، حيث أن الشركة التي أجرت بها التربص، طلبت منها البقاء. أخبرتني شهيناز أنها شاركت في الحراك، منذ أول ثلاثاء للطلبة يوم 26 فيفري 2019، وكانت تجربة لا تُنسى على مستوى النقاشات والخروج إلى الشارع، لكن الواقع السياسي وضغط برنامج الدروس أعاداها إلى الأقسام والمدرجات بمرارةٍ لازال طعمها إلى اليوم.
بالنسبة لوليد، 22 سنة، طالب سنة رابعة من ولاية تيبازة، فإن تجربة الدراسة في الخارج لا غنى عنها لأي طالب علم في عالم اليوم.
” بلدنا يمنحنا ما هو قادر عليه، بجامعاته وإطاراته، لكن السفر لرؤية العالم ومدارسه وآخر ما وصلت إليه البشرية ضروري.. لاحقًا يمكنك العودة لو أردت.. لا تنسى أن مدرستنا تخرج منها أناس أسّسوا موقع ‘واد كنيس’ منذ سنوات طويلة، وهناك من يعملون في تطبيقات مهمة مثل ” يسير “، كل هؤلاء ذهبوا وعادوا بأفكار جديدة.. أنا أنتظر نهاية التكوين هنا لأسافر.. أريد الوصول إلى أمريكا، لكن غالبًا سأمر عبر فرنسا.. أحتاج رؤية أشياءٍ جديدة أكبر وأوسع من واقعي كطالب إعلام آلي يقضي أيامه يحل معادلات ويطوّر فرضيات وبرامج.. بعدها سنرى “.