جار التحميل ...

سجون ليبيا السرية التي تحول دون وصول المهاجرين إلى أوروبا (2/2)

تنشر "توالى"، بالشراكة مع مشروع "المحيط الخارج عن القانون"، الجزء الثاني والأخير من تحقيق طويل أنجزه أيان أوربينا عن السجون السرية التي يُحتجز فيها المهاجرون غير النظاميون في ليبيا وعن المأساة التي يعيشها الأفارقة في البحر الأبيض المتوسط، منذ عشر سنوات، وعن الأطراف المتورطة فيها


عُقِدَ الاجتماع السري في حي قصديري للمهاجرين في طرابلس، العاصمة المحاصرة لليبيا. أطلق على الحي اسم قرقارش، وهو المكان الذي أطلق عليه أثناء الحرب العالمية الثانية« Campo 59 » ، واستخدم كسجن عسكري أداره الإيطاليون ثم الألمان. اليوم، هوكخلية نحل من الأزقة والشوارع الضيقة، تحيط بها مطاعم الوجبات السريعة ومحلات الهواتف المحمولة. تحولت فيه المداهمات التي يقوم بها رجال الميليشيات إلى جزء من الحياة اليومية.

كنت قد جئت إلى ليبيا قبل أيام لإجراء تحقيق حول مصير مهاجر أفريقي شاب يدعى أليو كاندي. كان مزارعًا في بلده الأصلي غينيا بيساو، لكن بسبب الجفاف والفيضانات تعرّضت محاصيله للخطر، الشيء الذي هدد حياة زوجته وأطفاله. كان قد انطلق إلى أوروبا وهو يحلم بالعمل، وقد نجح في اجتياز العديد من البلدان والعديد من الإصابات مع قطاع الطرق والعواصف الرملية، ولكنه تم إلقاء القبض عليه في البحر الأبيض المتوسط ​​من قبل حرس السواحل الليبي، وتمت إعادته إلى واحد من  أسوء سجون المهاجرين سمعة في البلاد.

في الحقيقة، قُبض على كاندي بسبب جهود أوروبا الطويلة والبشعة لوقف تدفق المهاجرين الأفارقة إلى شواطئها. عزز الاتحاد الأوروبي، عبر إيطاليا في كثير من الأحيان، حرس السواحل الليبي، وعزز قدرته على تعقب المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط ​، وغض بصره عن الأهوال التي حلت بالعديد من المهاجرين الذين وقعوا في أيادي السلطات الليبية.

تم نقل كاندي في أوائل فيفري من عام 2021 إلى واحد من أكبر سجون المهاجرين وأكثرها اكتظاظًا وعنفًا في البلاد، وهي منشأة تسمى المباني.

الآن، في قرقارش، أتيحت لي الفرصة لمقابلة أشخاص كانوا معه  في المباني.

سوماهورو صديق كاندي، الذي تم اصطحابه معه إلى المباني عندما تم توقيف قاربهما، قام باستقبالي على الطريق الرئيسي، واقتادني إلى مبنى بالطوب الإسمنتي حيث صعدنا إلى غرفة بلا نوافذ يسكنها مهاجران آخران. أثناء تناول وجبة من “شانا ماسالا”، أخبرني عن الفترة التي قضاها في السجن. قال: “الحديث عن هذا صعب حقًا بالنسبة لي”.

قال إن المهاجرين في المباني تعرضوا للضرب بسبب الهمس لبعضهم البعض، أو التحدث بلغاتهم الأصلية، أو الضحك. أما مثيرو الشغب فيتم احتجازهم لعدة أيام في “غرفة العزل”، وهي محطة وقود مهجورة خلف زنزانة النساء مع لافتة “Shell Fuel” معلقة في مدخلها. الزنزانة لا تحتوي على مرحاض، لذلك كان على السجناء قضاء حاجتهم في الزاوية؛ كانت الرائحة كريهة لدرجة أن الحراس كانوا يرتدون أقنعة عند زيارتهم. ربط الحراس يدي محتجز بحبل معلق من عارضة سقف فولاذية وضربوه. قال سوماهورو: “ليس من السيئ رؤية صديق أو رجل يصرخ أثناء تعذيبه، لكن رؤية رجل طوله ستة أقدام يضرب امرأة بالسوط…”

نظم سوماهورو في شهر مارس إضرابًا عن الطعام احتجاجًا على عنف الحراس، ونُقل إلى غرفة العزل، حيث تم تعليقه رأسًا على عقب وضربه مرارًا وتكرارًا. قال: ” يعلقوك كما يعلقون قطعة من الملابس”.

مهاجرون تم إنقاذهم من البحر وجُلبوا إلى أوغستا بإيطاليا، جوان 2021، تصوير مشروع المحيط الخارج عن القانون

وأخبرني العديد من المعتقلين السابقين الذين تحدثت معهم في طرابلس إنهم شهدوا حالات انتهاكات جنسية وإهانة. أخبرتني “أدجارا كيتا”، وهي مهاجرة من ساحل العاج تبلغ من العمر ستة وثلاثين عامًا، احتُجزت في المباني لمدة شهرين، أن النساء كثيرًا ما يُخرجن من زنازينهن ليتم اغتصابهن من قبل الحراس. قالت: “كانت النساء تعدن باكيات”. في أحد الأيام، بعد هروب امرأتين من المباني، قام الحراس، في عمل انتقامي عشوائي على ما يبدو، بإمساك كيتا، ونقلها إلى مكتب قريب، وضربوها.

استخدم الحراس المهاجرين كمتعاونين، مما جعل المحتجزين منقسمين فيما بينهم. تطوع محمد سوماح، البالغ من العمر 23 عامًا من غينيا كوناكري، للمساعدة في المهام اليومية وسرعان ما لجأ إليه الحراس للحصول على معلومات: أي المهاجرين يكرهون بعضهم البعض؟ من هم المحرضون؟ وعندما تم تشغيله كذلك رسميًا، لجأ المعتقلون إلى تسميته بـ “المندوب”. أثناء لجوء المعتقلين لدفع الفديات للخروج كان سوماح هو من يتولى المفاوضات. على سبيل المكافأة، سُمح له بالنوم في المستوصف أو مع الطباخين الذين يسكنون على الجانب الآخر من الشارع من المجمع. في وقت من الأوقات، كمكافأة على ولائه، سمح له الحراس باختيار عدة مهاجرين ليتم إطلاق سراحهم. يمكنه حتى مغادرة المجمع، على الرغم من أنه لم يذهب بعيدا. قال لي: “علمت أنهم سيجدونني ويضربونني إذا حاولت الفرار”.

زارت منظمة أطباء بلا حدود السجن مرتين في الأسبوع ووجدت أن المحتجزين تغطيهم كدمات وجروح، ويتجنبون الاتصال بالعينين، ويهربون من الأصوات المرتفعة. في بعض الأحيان، كان المهاجرون يدسون في أيادي الفريق ملاحظات يائسة مكتوبة على ظهور كتيبات منظمة الصحة العالمية الممزقة. قال كثيرون للأطباء أنهم يشعرون بـ “الاختفاء والخطف” وطلبوا أن يخبر أحدهم أسرهم بأنهم على قيد الحياة. خلال إحدى الزيارات، لم يتمكن الأطباء من دخول زنزانة كاندي لأنها كانت مزدحمة للغاية: قدروا أن هناك ثلاثة معتقلين لكل متر مربع. بدلاً من ذلك، عاينوا المهاجرين في الساحة. كان الاكتظاظ شديدًا لدرجة أن السل، وجدري الماء، والالتهابات الفطرية، وكوفيد 19كانت منتشرة. تم إخبار الأطباء بالتعرض للضرب في الليلة السابقة، وتم معاينة كسور وجروح وصدمات حادة؛ أصيب طفل بجروح بالغة لدرجة أنه لم يستطع المشي.

بعد أسابيع قليلة من اعتقال كاندي، قام أعضاء لجنة الإنقاذ الدولية التي تمول بشكل أساسي من أموال الاتحاد الأوروبي بجلب الماء والأغطية التي طلبتها المنشأة. لكن بعد أسبوع، أعلنوا أنهم لن يساعدوا المباني مجددا بعد اكتشافهم أن الحراس احتفظوا ببعض الإمدادات لأنفسهم. وقرابة نهاية شهر مارس، قام شريف خليل، المسؤول القنصلي من سفارة غينيا كوناكري، بزيارة السجن. اصطف كاندي متظاهراً أنه من غينيا كوناكري، وسأل عما إذا كان بإمكان السفارة إخراجه، لكن خليل كان عاجزاً عن المساعدة. قال لي خليل: “كان يائسًا”.

في منتصف وجبتي مع سوماهورو، رن هاتفي وبدأ ضابط شرطة على الخط بالصراخ في وجهي: “غير مسموح لك بالتحدث إلى المهاجرين. لا يمكنك أن تكون في قرقارش”. قال لي إنني إذا لم أغادر على الفور، فسيتم اعتقالي. عندما عدت إلى سيارتي، قال ضابط الشرطة، الذي كان يقف هناك، إنه إذا تحدثت إلى أي مهاجرين آخرين، فسوف يتم طردي خارج البلاد. بعد ذلك، لم يُسمح لي ولفريقي بالمغامرة بعيدًا. إذا أراد معتقلون سابقون رواية قصصهم، كان علي أن أدخلهم خلسة إلى الفندق الذي كنت أقيم فيه.

*

عندما وصلت إلى ليبيا، أخبرني المسؤولون الحكوميون أنه سيسمح لي برؤية وحدة حرس السواحل والقيام بجولة في المباني. ولكن، بعد عدة أيام، أصبح من الواضح أن أيًا منهما لن يحدث. في وقت متأخر من بعد ظهر أحد الأيام، ذهبت مع فريقي إلى زقاق وأطلقت “درون” صغير لتصوير فيديو، وهويحلق عالياً بما يكفي فوق السجن حتى لا يلاحظه الحراس. على الشاشة، رأيتهم يستعدون لإرجاع المهاجرين من الفناء إلى زنازينهم. جلس حوالي 65 محتجزًا متجمعين في الزاوية، غير متحركين، ورؤوسهم لأسفل، وسيقانهم مطوية، وكانت أيدي كل رجل تلمس ظهر الرجل الذي أمامه. عندما نظر أحد المهاجرين إلى جانبه، انحنى أحد الحراس وضربه على رأسه.

أثناء حكم القذافي وبعده، بنت ليبيا عشرات المنشآت لاحتجاز السجناء السياسيين وأعضاء الميليشيات والمرتزقة الأجانب. عندما لجأت أوروبا إلى البلاد لتوقيف المهاجرين، كان هناك ما يكفي من المرافق لاحتجازهم. يوجد حاليًا حوالي خمسة عشر مركز احتجاز معترف به، أكبرها المباني.

أخبرني مسؤول في منظمة الهجرة الدولية أن عشرات الآلاف من المهاجرين محتجزون في السجون منذ عام 2017. بموجب القانون الليبي، يمكن احتجاز الأجانب المتواجدين على أراضيها بدون ترخيص إلى أجل غير مسمى، ودون الاتصال بمحام. لا يوجد تمييز بين اللاجئين الاقتصاديين وطالبي اللجوء وضحايا الاتجار غير المشروع بالبشر. في ماي، أخبرت ست نساء في مركز شرع الزاوية محققي منظمة العفو الدولية أنهن تعرضن للاغتصاب أو لأشكال أخرى من التعذيب الجنسي. في أبو سليم، قُتل مهاجران خلال محاولة هروب في فيفري الماضي. قال مهاجر هناك لمنظمة العفو الدولية: “الموت في ليبيا طبيعي: لن يبحث عنك أحد ولن يجدك أحد”. أعلنت ديانا الطحاوي، التي تعمل في منظمة العفو الدولية، في جويلية، أن “شبكة مراكز احتجاز المهاجرين الليبية بأكملها فاسدة في جوهرها”.

يتم اقتياد المهاجرين الذين تم أسرهم من قبل حرس السواحل في حافلات، حافلات تم توفير العديد منهما من قبل الاتحاد الأوروبي، ونقلهم إلى السجون ؛ في بعض الأحيان، تبيعهم وحدات حرس السواحل إلى مراكز الاحتجاز بمقابل. بعض المهاجرين لا يصلون أبدًا إلى أحد السجون الرسمية. في الأشهر السبعة الأولى من عام 2021، وفقًا لـلمنظمة الدولية للهجرة، تم القبض على أكثر من خمسة عشر ألف مهاجر من قبل حرس السواحل الليبي، لكن حوالي ستة آلاف فقط وصلوا إلى المراكزالمخصصة لهم. قال فيديريكو سودا، رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في ليبيا: “الأرقام ببساطة لا تتطابق”. يعتقد سودا أن العديد من المهاجرين يختفون في منشآت “غير رسمية” يديرها متاجرون وميليشيات، وحيث لا تستطيع فرق الإغاثة الوصول إليها.

تم إنشاء المباني في بداية هذا العام من قبل عماد الطرابلسي، القيادي البارز في كتيبة الزنتان. الميليشيا ذات الصلة بقبيلة الزنتان التي ساعدت في الإطاحة بالقذافي واحتجزت ابنه سيف كسجين سياسي لسنوات. واليوم، انضمت المجموعة إلى حكومة الوحدة الوطنية المدعومة من الأمم المتحدة، وعمل الطرابلسي لفترة وجيزة كنائب لرئيس المخابرات. (رفض الطرابلسي التعليق). تم بناء السجن في ركن من أركان المدينة تسيطر عليه الميليشيات. أصبح أفرادها موظفين وحراس مسلحين، وعُين نور الدين القريتلي الرجل معسول الكلام وقائد الميليشيا، لإدارتها.

في السابق، أشرف القريتلي على سجن همجي للمهاجرين يسمى تاجوراء، في قاعدة عسكرية على المشارف الشرقية لطرابلس. في تقرير لـهيومن رايتس ووتش، عام 2019، وصف ستة محتجزين، بينهم صبيان في السادسة عشرة من العمر، تعرضهم للضرب المبرح، وتحدثت امرأة عن تعرضها لاعتداءات جنسية متكررة. وتحدث كاتبو التقرير عن رؤية محتجزة تحاول شنق نفسها بينما كان الحراس ينظرون إليها. وطبقا لمحققي الأمم المتحدة، فقد طُلب من السجناء القيام بأعمال قسرية في المنشأة، بما في ذلك تنظيف الأسلحة وتخزين الذخيرة وتفريغ الشحنات العسكرية. في جويلية 2019، أثناء اندلاع الحرب الأهلية الأخيرة، ضربت قنبلة القاعدة العسكرية، مما أدى إلى تدمير المستودعات أين كان يتواجد المهاجرون. وقتل أكثر من 50، بينهم ستة أطفال. أما الذين نجوا فانتهى المطاف بمعظمهم في المباني.

والدا أليو كاندي يحملان صورته وعائلته الصغيرة، غينيا بيسار، ماي 2021، تصوير مشروع المحيط الخارج عن القانون

يقر الاتحاد الاوروبي بأن سجون المهاجرين وحشية. قال لي المتحدث باسم الصندوق الاستئماني: “إن موقف الاتحاد الأوروبي تجاه ظروف احتجاز المهاجرين في ليبيا واضح: الوضع في هذه المراكز غير مقبول. يجب إنهاء نظام الاحتجاز التعسفي الحالي”. في العام الماضي، قال جوزيف بوريل، نائب رئيس المفوضية الأوروبية “إن قرار الاحتجاز التعسفي للمهاجرين يقع على عاتق الحكومة الليبية وحدها”. في اتفاقه الأولي مع ليبيا، وعد الاتحاد الأوروبي بالمساعدة في تمويل عملية احتجاز المهاجرين وجعلها آمنة. ولكن اليوم، يصر المسؤولون الأوروبيون على أنهم لا يمولون المواقع بشكل مباشر. إنفاق الصندوق الاستئماني مبهم، لكن المتحدث باسمه أخبرني أنه يرسل الأموال فقط إلى وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية التي تقدم “الدعم إنقاذا لحياة المهاجرين واللاجئين المحتجزين”، وذلك من خلال توفير “الرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي، المساعدة النقدية والمواد غير الغذائية.” أخبرتني عضو البرلمان الأوروبي تينيكي سترايك أن هذا الادعاء لا معنى له: “إذا كان الاتحاد الأوروبي لم يمول حرس السواحل الليبي وأصوله، فما كان ليكون هناك اعتراض للقوارب، ولا إحالة إلى مراكز الاحتجاز المروعة هذه “.

كما أشارت إلى أن الاتحاد الأوروبي يرسل الأموال إلى حكومة الوحدة الوطنية، التي تشرف مديرية مكافحة الهجرة غير الشرعية التابعة لها على المواقع. حتى لو كان الاتحاد الأوروبي لا يدفع بشكل مباشر لبناء مرافق الاحتجاز أو رواتب حراسها، كما يقول، فإن أمواله، التي يتم إنفاقها من خلال الوكالات الحكومية والمنظمات غير الحكومية، تساعد بشكل غير مباشر في دعم الكثير من عملياتها. أموال الاتحاد الأوروبي هي من تشتري القوارب التي تأسر المهاجرين، وأجهزة “التابليت” التي يستخدمها عمال الإغاثة لعدهم عند نزولهم، والحافلات التي تنقلهم إلى السجون.

تساعد أموال الاتحاد الأوروبي التي يتم توجيهها من خلال وكالات الأمم المتحدة مثل منظمة الهجرة الدولية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين في دفع ثمن الأغطية والملابس الشتوية والأحذية التي يتلقونها عند وصولهم. هذه الأموال أيضا قامت ببناء الحمامات وقاعات الاستحمام في العديد من المرافق، واشترت الصابون ومستلزمات النظافة وورق المرحاض الذي يستخدمه المهاجرون، وكذلك الأفرشة التي ينامون فيها.

يدفع صندوق الاتحاد الأوروبي الاستئماني لأفريقيا تكاليف المركبات الرياضية التي تستخدمها السلطات الليبية لمطاردة المهاجرين الفارين من الاحتجاز، وللقبض على من يدخلون البلاد عبر الصحراء الكبرى. عندما يمرض المحتجزون، تنقلهم سيارات الإسعاف التي اشتراها الصندوق الاستئماني إلى المستشفى. وعندما يموتون، فإن الإتحاد الأوربي  يدفع المال مقابل أكياس لأجسادهم، ويدرب السلطات الليبية على كيفية التعامل مع جثثهم بطريقة مناسبة دينياً. بشكل فردي، تساعد بعض هذه الجهود في جعل السجون أكثر إنسانية؛ أما مجتمعة فتساعد في الحفاظ على النظام. أقرت بعثة الإتحاد الأوربي بهذا في تقرير داخلي للمساعدة على إدارة الحدود الليبية، في عام 2019، محذرة من أن جزءاً من آخر ضخ للأموال، حوالي تسعين مليون يورو، من المرجح أنه يذهب نحو تشغيل المراكز، مما سيؤدي إلى مزيد من الاستغلال والانتهاكات.

تستخدم الميليشيات أيضًا مجموعة متنوعة من الأساليب لتحقيق ربح من المنشآت. غالبًا ما تسحب الميليشيات الأموال والبضائع التي ترسلها المنظمات الإنسانية والوكالات الحكومية لإفادة المهاجرين – وهو مخطط يُعرف باسم “تحويل المساعدات”. قال مدير مركز احتجاز في مصراتة للمحققين لهيومن رايتس ووتش إن الميليشيا التابعة له كانت تدير أيضًا شركة التموين التي تخدم المنشأة، واستولت على حوالي 85 في المائة من الأموال التي أرسلتها الحكومة الليبية وجماعات الإغاثة لتوفير وجبات الطعام للمهاجرين. كما تم توثيق سرقة الميليشيات للطعام والبطانيات والدلاء وأدوات النظافة. وجدت دراسة داخلية مولها الصندوق الاستئماني، في أفريل 2019، أن الكثير من الأموال التي يرسلها عبر المنظمات الإنسانية انتهى بها المطافعند الميليشيات. تقول الدراسة: “في معظم الأحيان، يكون هذا نشاطا يدر أرباحًا”.

تسمح القوانين التي تعود إلى عهد القذافي بإجبار الأجانب غير المصرح لهم، بغض النظر عن العمر، على العمل في البلاد دون أجر. يمكن للمواطن الليبي إخراج المهاجرين من السجن مقابل دفع مبلغ من المال، وأن يصبح “الوصي” عليهم، والإشراف على أداءهم لأعمال خاصة لفترة محددة من الوقت. في عام 2017، بثت “سي أن أن” لقطات لبيع بالمزاد خارج طرابلس مباشرة، حيث بيعَ المهاجرون للعمل في المزارع وورشات البناء؛ بدأت المزايدة من أربعمائة دينار ليبي أي نحو ثمانية وثمانين دولارا للفرد.

في هذا العام، أخبر أكثر من عشرة مهاجرين من المباني، بعضهم لم يتجاوز عمرهم أربعة عشر عامًا، منظمة العفو الدولية أنهم أُجبروا على العمل في المزارع أو في المنازل الخاصة، وتنظيف وتحميل الأسلحة في المعسكرات أثناء المواجهات. ربما يكون الابتزاز هو المخطط الأكثر شيوعًا. في مراكز الاحتجاز، لكل شيء ثمن: الحماية والغذاء والدواء، والأغلى من ذلك كله، الحرية. لكن حتى دفع الفدية لا يضمن الإفراج. يتم ببساطة إعادة بيع بعض المهاجرين إلى مركز احتجاز آخر. جاء في دراسة الصندوق الاستئماني: “لسوء الحظ، نتيجة للعدد الكبير من المراكز وتحويل المهاجرين إلى سلع، يتم احتجاز العديد من قبل مجموعة أخرى بعد إطلاق سراحهم، مما يؤدي إلى دفع فدية عديد المرات”.

خلال اجتماع في وقت سابق من هذا العام مع السفير الألماني في ليبيا، أقر اللواء المبروك عبد الحفيظ، الذي يشرف على مديرية مكافحة الهجرة غير الشرعية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية، الجهاز المسؤول عن مراكز احتجاز المهاجرين، بالظروف الوحشية في السجون. لقد صور نفسه وبلده على أنهما مكلفان بمهمة مستحيلة. وقال: “ليبيا لم تعد بلد عبور، بل ضحية تُركت وحدها لمواجهة أزمة فشلت فيها دول العالم”. (رفض عبد الحفيظ التعليق على هذأ).

عندما اتصلت بالقريتلي، مدير المباني، وسألته عن مزاعم سوء المعاملة هناك، أجاب: “التجاوزات التي ذكرتها لا تحدث”، ثم أغلق سماعة الهاتف.

*

عندما كان كاندي قابعا في زنزانته، علمت أنه تمسك بإشاعة كانت قد اجتاحت المنشأة في وقت سابق – كان الحراس يفرجون عن المحتجزين في الزنزانة رقم 4 تكريما لشهر رمضان. بينما كان ينتظر إطلاق سراحه، وجد طرقًا لتمضية الوقت: حاول تعلم اللغة العربية مع لوثر ولعب البوكر. كتب لوثر في مذكراته عن احتجاج للسجينات: “إنهن يرتدين ملابس داخلية ويجلسن على الأرض لأنهن يطالبن أيضًا بالإفراج عنهن”. أطلق الشابان ألقابا للحراس، بناءً على الأوامر التي يصرخون بها. أحدهم كان يُعرف باسم “خمسة، خمسة”، وكان يصرخ أثناء تناول الطعام ليذكر المهاجرين أن على كل خمسة أشخاص أن يتقاسموا الطبق.

حارس آخر لقباه ب “جاميس” أو “اجلس” ​، والذي كان حريصا على عدم وقوف أحد. “التزم الصمت” كان يراقب الثرثرة. في وقت من الأوقات، اهتم كاندي ولوثر بمهاجر ظهر أنه يعاني من نوبة ذهانية، يضرب ويصرخ. كتب لوثر: “لقد كان غاضبًا لدرجة أننا اضطررنا إلى كبح جماحه حتى نتمكن من النوم بسلام”. في النهاية، نقل الحراس المحتجز إلى المستشفى، كي يعود بعد ثلاثة أيام، مضطربًا كما كان دائمًا. كتب لوثر “وضع لا يصدق”.

قرب نهاية مارس، قال الحراس للمهاجرين إنه لن يتم الإفراج عنهم خلال شهر رمضان. كتب لوثر: “هكذا هي الحياة في ليبيا. لا يزال يتعين علينا التحلي بالصبر حتى نتمتع بحريتنا”. لكن كاندي انهار. عندما تم اعتقاله لأول مرة، فشل حرس السواحل بطريقة ما في مصادرة هاتفه الخلوي. لقد احتفظ به مخفيًا، لكن قلقًا من أنه إذا تم القبض عليه، فسوف يعاقب بشدة. ولكن بحلول نهاية شهر مارس، أرسل رسالة صوتية إلى إخوته عبرواتساب في محاولة لشرح الموقف بسرعة: “لا يمكن إبقاء الهاتف مشغلا لفترة طويلة هنا. كنا نحاول الوصول إلى إيطاليا عن طريق البحر. أمسكوا بنا وأعادونا. الآن نحن محبوسون في السجن”. توسل إليهم “أوجدوا طريقة للاتصال بأبينا.” ثم انتظر، على أمل أن يتمكنوا من جمع الفدية.

في الساعة الثانية من صباح يوم 8 أفريل، استيقظ كاندي على ضوضاء: كان العديد من المعتقلين السودانيين يحاولون فتح الباب الأمامي للزنزانة رقم 4 والهرب. كان كاندي قلقًا من معاقبة جميع السجناء، فأيقظ سوماهورو، الذي ذهب مع عشرات آخرين لمواجهة السودانيين. قال لهم سوماهورو: “لقد حاولنا الخروج عدة مرات من قبل. لم ننجح أبدًا. لقد تعرضنا فقط للضرب”. لم يستمع السودانيون، وقال سوماهورو لمعتقل آخر أن ينبه الحراس، الذين دعموا باب الزنزانة بشاحنة من الرمل.

سحب السودانيون الأنابيب الحديدية من جدار الحمام وبدأوا في الإشارة بها لمن تدخلوا. أصيب مهاجر في عينه، سقط آخر على الأرض، والدم يسيل من رأسه. بدأت المجموعات في رمي بعضها البعض بالأحذية والدلاء وزجاجات الشامبو وقطع من الجص. قال كاندي لسوماهورو، “لن أقاتل. أنا أمل عائلتي بأكملها”. استمر الشجار لمدة ثلاث ساعات ونصف. صرخ بعض المهاجرين طلبا للمساعدة، وصرخوا، “افتحوا الباب!” وبدلاً من ذلك، ضحك الحراس وهللوا، وهم يصورون القتال بهواتفهم كما لو كانت مباراة قفص. قال أحدهم، “استمروا في القتال”، وهو يقدملهم زجاجات المياه عبر السياج. “إذا كنت تستطيع قتلهم، فافعل ذلك.”

لكن عند الساعة 5:30 صباحًا، غادر الحراس وعادوا ببنادق نصف آلية. دون سابق إنذار، أطلقوا النار على الزنزانة عبر نافذة الحمام لمدة عشر دقائق متواصلة. قال لي سوماهورو: “بدت وكأنها ساحة معركة”. وأصيب مراهقان من غينيا كوناكري، وهما إسماعيل دومبويا وأيوبا فوفانا الذي أصيب في ساقه. أصيب كاندي، الذي كان يختبئ في الحمام أثناء القتال، في رقبته. ترنح على طول الحائط، ملطخًا بالدماء، ثم سقط على الأرض. حاول سوماهورو إبطاء النزيف بقطعة قماش. توفي كاندي بعد عشر دقائق.

سجن المباني، طرابلس ليبيا، تصوير بيار قطار

وصل القريتلي بعد عدة ساعات وصرخ على الحراس: ماذا فعلتم؟ يمكنكم فعل أي شيء لهم، لكن لا يمكنكم قتلهم! رفض المهاجرون تسليم جثة كاندي ما لم يتم إطلاق سراحهم، فاستدعى الحراس المذعورون سوماح، المتعاون، للتفاوض. في النهاية وافقت الميليشيا على الشروط. قال: “أنا سوماح، سأفتح هذا الباب وستخرجون يا رفاق”. “لكن هناك شرط واحد. عندما تخرجون، لا تسببواالمشاكل. لا تسببوا الفوضى. سأكون أمامكم، وسأركض معكم حتى المخرج”. قبل الساعة التاسعة صباحًا بقليل، تموقع الحراس بالقرب من البوابة، ورفعوا اسلحتهم. فتح سوماح باب الزنزانة وقال لثلاثمائة مهاجر أن يتبعوه خارج السجن ببطء، في صف واحد، وبدون أن يتحدثوا. استمر المارة الذين خرجوا في الصباح في التحديق في المهاجرين عندما غادروا المجمع وتفرقوا في شوارع طرابلس.

*

بحلول اليوم السادس لي في طرابلس، كنت أنا وفريقي نجمع تفاصيل وفاة كاندي. ضد رغبات الحكومة، أجرينا مقابلات مع العشرات من المهاجرين والمسؤولين وعمال الإغاثة. كان لدي انطباع واضح بأن موظفي الفندق و “حراس الأمن” الخاصين بنا يبلغون السلطات عن تحركاتنا.

يوم الأحد 23 ماي، قبل الساعة 8 مساءً بقليل، كنت جالسًا في فندقي، في اتصال على الهاتف مع زوجتي في واشنطن، عندما تم طرق الباب. عندما فتحته، اقتحم عشرات المسلحين الغرفة موجهين مسدسًا إلى جبهتي وصرخوا “انبطح على الأرض!” وضعوا غطاء على رأسي وضربوني – ركلوني ولكموني وداسوا على وجهي- تاركين ضلعين مكسورين ودماء في بولي وتلفًا في كليتي. ثم جروني من الغرفة.

كان فريقي البحثي في ​​طريقه لتناول العشاء بالقرب من فندقنا. اصطدمت شاحنة صغيرة بيضاء بسيارة مدنية أمامهم، مما أدى إلى قطع الطريق، وقفز حوالي خمسة رجال مرتدين أقنعة، وحاملين أسلحة نصف آلية، من الشاحنة. أخذوا سائق فريقي من الشاحنة وضربوه بعقب المسدس، ثم عصبوا عيون زملائي وأبعدوهم. تم اقتيادنا إلى غرفة استجواب في موقع أسود، حيث تعرضت للضرب مرة أخرى في رأسي وضلوعي. كنت أسمع الرجال وهم يهددون الآخرين. “أنت كلب!” صرخ أحدهم في مصورنا بيير قطّار وضربه على وجهه. همسوا بتهديدات جنسيًة لعضوة فريقنا، ميدولز دي يونج، المخرجة الهولندية، قائلين، “هل تريدين صديقًا ليبيًا؟” بعد بضع ساعات، نزعوا أحزمتنا وخواتمنا وساعاتنا ووضعونا في زنزانات.

اكتشفت بعد ذلك – من خلال مقارنة صور الأقمار الصناعية مع القليل الذي لمحناه عن المنطقة المحيطة – أننا محتجزون في سجن سري على بعد مئات الأمتار من السفارة الإيطالية. أخبرنا آسرونا أنهم جزء من “جهاز المخابرات الليبي”، وهو وكالة تابعة لحكومة الوحدة الوطنية – وهي الحكومة التي تشرف أيضًا على المباني- رغم أن لها صلات بميليشيا تسمى كتيبة النواصي. تفاخر المحققون بأنهم عملوا معًا في عهد القذافي. زعم أحدهم، الذي كان يتحدث الإنجليزية، أنه قضى فترة في كولورادو في برنامج تدريبي تديره وزارة الأمن الداخلي الأمريكية لإدارة السجون.

وُضعت في زنزانة انفرادية بها مرحاض ومرش وفرشة إسفنجية وكاميرا مثبتة في السقف. كان الحراس يسلمون علب أرز أصفر وزجاجات مياه عبر فتحة بالباب. كل يوم، كان يتم استجوابي في غرفة استجواب لساعات في كل مرة. ظل رجل يقول لي: “نعلم أنك تعمل لصالح وكالة المخابرات المركزية. هنا في ليبيا، يُعاقب التجسس بالإعدام”. أحيانًا كان يضع مسدسًا على الطاولة أو يصوبه إلى رأسي. بالنسبة للأشخاص الذين اعتقلوني، أصبحت الخطوات التي اتخذتها لحماية فريقي دليلاً على إدانتي. لماذا يرتدون أجهزة تتبع ويحملون نقودًا ونسخًا من جوازات سفرهم في أحذيتهم؟ لماذا لديّ “جهازي تسجيل سريين” في حقيبتي‘’Apple Watch”و‘’GoPro’’جنبًا إلى جنب مع مجموعة من الأوراق بعنوان “مستند سري” قائمة بجهات الاتصال في حالات الطوارئ التي عنونتها “مستند الأمان”.

كوني صحفيًا لم يكن دفاعًا عني بقدر ما كان جريمة ثانوية. أخبرني الذين اعتقلوني أنه من غير القانوني محاورة المهاجرين حول الانتهاكات في المباني. “لماذا تحاول إحراج ليبيا؟” هكذا سألوني. قالوا لي مرارًا وتكرارًا، “لقد قتلتم جورج فلويد”. على أمل الخروج، فتحت غطاء المرحاض وفككت بعض السباكة لاستخدام قطعة معدنية لفك قضبان النافذة. نقرت على جدار زنزانتي وسمعت قطار، المصور، ينقر مرة أخرى، الأمر الذي وجدته مطمئنًا بطريقة ما.

سمعت زوجتي بدايات اختطافي وأبلغت وزارة الخارجية. إلى جانب السلك الدبلوماسي الهولندي، بدأت الوكالة في الضغط على رئيس حكومة الوحدة الوطنية من أجل إطلاق سراحنا. في وقت من الأوقات، تم أخذنا من زنازيننا لتسجيل فيديو “دليل على الحياة”. قال لنا سجانونا أن نغسل الدماء والأوساخ عن وجوهنا وأن نجلس على أريكة أمام طاولة بها مشروبات غازية وحلويات. قالوا “ابتسموا”، وأمرونا أن نقول أمام الكاميرا إننا نعامل معاملة إنسانية. “تكلموا. كونوا طبيعيين”. بعد خمسة أيام، وافقت الميليشيا على إطلاق سراحنا. طُلب منا التوقيع على وثائق “اعتراف” مكتوبة باللغة العربية على ورق رسمي من “إدارة مكافحة العداء” وتحمل اسم ضابط يدعى اللواء حسين محمد الأعيب. عندما استفسرنا عما هو مكتوب في الوثائق، ضحك خاطفونا.

قدمت التجربة – المخيفة للغاية ولكنها قصيرة لحسن الحظ- لمحة عن عالم الاحتجاز إلى أجل غير مسمى في ليبيا. غالبًا ما كنت أفكر في سجن كاندي لمدة شهور، ونتائجه الأكثر وحشية. في 28 ماي، تم إطلاق سراحنا أنا وفريقي من زنازيننا ومرافقتنا نحو الباب. عندما اقتربنا، وضع محقق يده على صدري. قال: “يا رفاق، يمكنكم الذهاب. إيان سيبقى هنا.” اندهش الجميع. ثم انفجر ضاحكا وقال إنه كان يمزح فقط. تم اصطحابنا إلى طائرة ونقلنا جواً إلى تونس، حيث تم ترحيلنا رسميًا لارتكاب جريمة “إنجاز تقارير عن المهاجرين”.

*

في الأسابيع التي تلت وفاة كاندي، انتشر الخبر بسرعة عبر المدينة مع أولئك الذين هربوا، ووصل الخبر في النهاية إلى أوصمان ساني، الممثل القنصلي غير الرسمي لغينيا بيساو البالغ من العمر أربعة وأربعين عامًا. ذهب ساني مع ديمبا بالدي، عم كاندي الذي عاش في طرابلس لسنوات والذي نصح كاندي بعدم محاولة الذهاب لأوروبا، إلى مركز الشرطة، حيث تم إعطاؤهم نسخة من تقرير التشريح. لم تعرف السلطات اسم كاندي، لذلك كانت الاستمارات مجهولة الهوية، كما أشارت إلى أنه مات في شجار، الشيء الذي أغضب ساني. قال لي “لم يكن قتالاً. لقد كانت رصاصة.” في وقت لاحق، ذهب كل من ساني وبالدي إلى المستشفى المحلي للتعرف على جثة كاندي ؛ تم دفعه للخارج على نقالة معدنية ملفوفا بقطعة قماش بيضاء تغطي جسمه ولا تكشف سوى على وجهه. خلال الأيام العديدة التالية، سافر الرجلان حول طرابلس لسداد ديون كاندي، ديون تكبدها بعد وفاته: مائة وثمانية وثمانين دولارًا للإقامة في المستشفى، وتسعة عشر دولارًا للكفن الأبيض وملابس الدفن، ومائتان وستة وثلاثون دولارًا مقابل مراسم الدفن.

علمت عائلة كاندي بوفاته بعد يومين. أخبرني والده سامبا أنه بالكاد يستطيع النوم أو الأكل: “الحزن يثقل كاهلي”. أنجبت هافا منذ ذلك الحين ابنة اسمها كاداتو، وهي الآن تبلغ من العمر عامين، وأخبرتني أنها لن تتزوج مرة أخرى حتى تنتهي من الحداد. قالت “قلبي محطم”. كان جاكاريا يأمل في أن تعتقل الشرطة قتلة أخيه. قال: “لا أعتقد أنهم سيفعلون. إذن، لقد رحل. رحل في كل شيء”. ساءت الظروف في المزرعة، مع المزيد من الفيضانات ونقص العمال. نتيجة لذلك، من المرجح أن يحاول بوبو، شقيق كاندي الأصغر، القيام برحلة إلى أوروبا بنفسه. “ماذا عساني أن أفعل؟” قال بوبو.

تم إيقاف القريتلي عن العمل في المباني بعد وفاة كاندي، ولكن بعد أسابيع قليلة، أعيد إلى منصبه. رفضت منظمة أطباء بلا حدود دخول السجن لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا. كتبت بياتريس لاو، رئيسة بعثتها في ليبيا، “لقد وصل النمط المستمر لحوادث العنف والأذى الجسيم للاجئين والمهاجرين، فضلاً عن الخطر على سلامة موظفينا، إلى مستوى لم نعد قادرين على قبوله.” واستأنفت المنظمة أنشطتها بعد تلقيها ضمانات بعدم وقوع مزيد من أعمال العنف. لكن في أكتوبر، اعتقلت السلطات الليبية، بما في ذلك كتيبة الزنتان، خمسة آلاف مهاجر في قرقارش وأرسلت الآلاف إلى المباني. في غضون أسبوع، فتح الحراس النار على سجناء حاولوا الفرار، مما أسفر عن مقتل ستة.

مقبرة بئر الأسطى، ليبيا، حيث دفن أليو كاندي، تصوير بيار قطار، 2021

بعد وفاة كاندي، قام ساباديل، سفير الاتحاد الأوروبي، بالدعوة إلى إجراء تحقيق رسمي، لكن يبدو أن التحقيق لن يحدث أبدًا. (لم يجب ساباديل على طلبات التعليق). ولا يزال التزام أوروبا ببرامجها المناهضة للمهاجرين في ليبيا ثابتًا. كما أن إيطاليا جددت العام الماضي مذكرة التفاهم مع ليبيا وأنفقت أربعة ملايين دولار أخرى منذ شهر مارس على حرس السواحل. التزمت المفوضية الأوروبية مؤخرًا ببناء مركز قيادة بحري “جديد ومحسّن” وشراء ثلاث سفن أخرى. يستمر عدد المهاجرين الذين يصلون إلى أوروبا في الانخفاض، لكن معدل الوفيات لأولئك الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط ​​ارتفع بنسبة 40 في المائة منذ عام 2017.

يوم 12 أفريل، بعد صلاة الساعة الخامسة مساء بقليل، تجمع صاني وبالدي، وحوالي عشرين آخرين في مقبرة بئر الأسطى ميلاد لحضور جنازة كاندي. تحتل المقبرة قطعة أرض مساحتها ثلاثة هكتارات بين محطة كهرباء فرعية ومستودعين كبيرين. معظم المهاجرين في ليبيا الموتى مدفونون هناك، ويوجد فيها الآن حوالي عشرة آلاف قبر، العديد منها بدون شواهد. صلى الرجال بصوت عالٍ بينما تم إنزال جثة كاندي في حفرة لا يزيد عمقها عن قدم ونصف، محفورة في الرمال. وغطوها بستة حجارة مستطيلة وصبوا عليها طبقة من الإسمنت. سأل شخص ما إذا كان لدى أي شخص أموال من كاندي ليعطيها لعائلته؛ لم يجب أحد. بعد لحظة، قال الرجال في انسجام “الله أكبر”. ثم قام أحدهم، باستخدام عصا، بكتابة اسم كاندي في الأسمنت الرطب.


الجزء الأول من التحقيق من هنا.

تنشر “توالى” هذا التحقيق بالتعاون مع The Outlaw Ocean Project

ترجمة توالى.