جار التحميل ...

ليلة في مرسم “سل همومك” ببولوغين

لن يتبادر إلى ذهنك أن هناك مدخلا في سفح جبل، يؤدي بك إلى سلالم عميقة تنزل بك إلى ما يشبه مغارة أو كهف تطل على شاطئ صخري، حولته مجموعة من عشاق أغنية "الشعبي" إلى "مرسم" فني يقصده أبناء "البهجة" من كل حدب وصوب كي "يسلوا همومهم" عشية كل خميس وجمعة.


صورة مهدي براشد

في شارع الأمير خالد ببولوغين “سانت أوجين” سابقا، هذا الكورنيش المطل على البحر من مخرج باب الوادي إلى غاية شاطئ فرانكو حيث كان فيلسوف دزاير وشاعرها الصوفي الفنان “حيمود ابراهيمي” (مومو) يناجي القصبة: “يا بهجتي”، لن يتبادر إلى ذهنك أن هناك مدخلا في سفح جبل، يؤدي بك إلى سلالم عميقة تنزل بك إلى ما يشبه مغارة أو كهف تطل على شاطئ صخري، حولته مجموعة من عشاق أغنية “الشعبي” إلى “مرسم” فني يقصده أبناء “البهجة” من كل حدب وصوب كي “يسلوا همومهم” عشية كل خميس وجمعة.

للذين يسألون كم سيصمد هذا اللون الغنائي الذي يسمى “الشعبي” مع هذا التطور المذهل المستمر للتكنولوجيا الرقمية وما يدفقه من أشكال ثقافية وفنية أغرقت ثقافتنا الأصلية؟ الجواب سهل. فقد ارتبط هذا اللون الموسيقي الغنائي الذي أسس له المرحوم الشيخ الحاج امحمد العنقى في عشرينيات القرن الماضي، بأفراح الجزائريين والعاصميين على الخصوص وطقوسهم في الزواج والختان، وفي جلسات الأنس الضيقة.

لكن “الشعبي” يستمر أيضا لأن هناك جماعة من الفنانين والذواقين يشكل هذا الطابع حيزا كبيرا من حياتهم اليومية، طربا وبحثا وتدبرا في المتن الشعري لأغنية الشعبي (قصيدة الملحون)، و المتن الموسيقي لها (موسيقى الشعبي) بكل مدارسه المتأرجحة بين الصنعة والحوزي والعروبي، وطبوع موسيقية أخرى من فلامينكو الأندلس، إلى غناوي السودان الكبير، إلى موسيقى السود في أمريكا من بلوز وجاز استطاع هذا الفن أن يمتصها كما الاسفنجة.

منذ أسبوع، كان لي الحظ أن دعاني الصديق الشيخ “سيد علي لحسن” إلى سهرة يحييها في ذلك “المرسم” الذي اتخذته جمعية “سل همومك” مقرا لها. كانت أغنية الشعبي دائما تشكل “هامش الثقافة الرسمية”، وكان مرسم “سل همومك” جغرافيا في هامش الهامش على تخوم شاطئ “سانطوجي” مثلما مازالت تنطقه ألسنة العجائز الدزيريات.

إنه مكان يشبه مقهى “المحطة” الموجود في إحدى المحلات الأقبية الموجودة تحت الطريق الممتد من ساحة بور سعيد (سكوار بيرسون سابقا) إلى ساحة الشهداء عبر شارع “شيغيفارا”، المطل على محطة القطار وميناء الجزائر.  إلى هذه المقهى كان “الحاج امحمد العنقى”، وهو طفل صغير يأتي بفطور رمضان إلى خاله الذي كان يشتغل قريبا من المكان، إلى أن لمحه ذات مرة صاحب المقهى “عمي رابح الفحام”، وهو يتابع إيقاع الغناء الذي كان يعزف في سد المقهى، فأدخله، لتبدأ رحلته مع أغنية الشعبي.

الجميل في هذا المرسم، ولدى جمعية “سل همومك”، وعنوان هذه الجمعية على قدر من الجمال والدلالة، لأن الهدف الأول والأخير لهذه الجمعية هو خلق هامش من البهجة والراحة والتسلية، أنه مكان للالتقاء في وقت شحت فيه أماكن لقاء الفنانين والذواقين، على حد تعبير أحد أعضاء الجمعية “بايو لامين”.

في هذا المرسم يبرمج فنانو الشعبي وفرقهم من مختلف مناطق العاصمة وضواحيها، فنانون وموسيقيون قطعوا أشواطا كبيرة في هذا الفن، في الأعراس والحفلات، لكنهم يأتون إلى هنا ويصرون على أن يبرمجوا، على حسابهم الخاص، ولن يتقاضوا دينارا واحدا، كل هدفهم هو أن يلتقوا بفنانين مثلهم وبذواقين. والذي يزور موقع “سلي همومك” على الفيسبوك سيعرف العدد الكبير من فناني الشعبي الذين تداولوا على ليالي “خميسات” و”جمعات” هذا المرسم.

هذه الليلة التي كان لي حظ حضورها أحياها الفنان الشيخ “سيد علي لحسن”، عرفته في مطلع التسعينيات، حين كان أستاذا للقسم الأول في العنقاوية بالمركز الثقافي الجزائر بعبان رمضان، فنان ينتمي إلى المدرسة العنقاوية، يعزف على كل الآلات، تجشم عناء التنقل ليلا من القليعة إلى غاية بولوغين، من أجل إحياء هذه الليلة. وكان رفقته جوق جمع بشق الأنفس، لكنه يضم موسيقيين رائعين متمرسين، منهم من كان في الأقسام الأولى لجمعية الموصلية أيام الأستاذ الراحل سيد احمد سري، مثلما هي حال عازف الطار الذي جاء من براقي. ومنهم من تتلمذ على يد علي دباح “عليلو” مثلما هي حال عازف الإيقاع “عبد الغاني حلوات”، والحال نفسها مع باقي الموسيقيين.

في هذه الليلة جال بنا الشيخ سيد علي لحسن في مدونة ملحون امتدت من الشيخ سيدي لخضر بن خلوف و”خزنته الكبيرة” مادحا للرسول صلى الله عليه وسلم ومتوسلا له، إلى “بن مسايب” والشيخ “قدور بن عاشور” وقصيدته “السرجم”، مرورا بالشيخ “التهامي المدغري” و”ديجوره” إلى قصائد التركماني وانصرافات من قبيل “الهوى قد ملك فؤادي”. مدونة جمعت الجد والهزل في إيقاعات بدأت بـ “جمبر عراق” وانتهت بـ “الجاركا”

وعلى الرغم من الحر الشديد والرطوبة المرتفعة التي حولت “المرسم” إلى حمام ساخن أغرقت الجميع في عرقهم، إلا أن حرارة اللقاء الفني تنسيك كل حرارة، وغرقك في بحر “النظام” ينجيك من أي غرق.

منذ سنوات، ووزارة الثقافة تسهر على تنظيم “المهرجان الوطني لأغنية الشعبي”، مهرجان حضرت كل دوراته التي أقيمت قبل أن يوقف في عهد الوزير عز الدين ميهوبي، وبعد أن أعيد بعثه في أيام الوزيرة الحالية “صورية مولوجي”، تحت إشراف محافظه “عبد القادر بن دعماش”.

حين كان المهرجان يقام، كل شهر رمضان، في مسرح محي الدين باش طارزي، كانت مقهى “القوراري” على بعد عشرات الأمتار من المسرح بالقرب من مقر المديرية العامة للأمن الوطني، قبل أن تقفل ، وككل رمضان، تنظم بالموازاة سهرات فنية شعبية. لم يكن هناك مجال للمقارنة، وباستثناء يوم افتتاح المهرجان الذي يحضره الرسميون، كانت مقهى “القوراري” أكثر استقطابا للجمهور والذواقين، وأكثر أصالة. باختصار، كانت أكثر تمثيلا لأغنية الشعبي.

منذ عودة مهرجان أغنية الشعبي، بدأ الحديث عن مساع لتصنيف هذا اللون الغنائي الجزائري الأصيل ضمن التراث اللامادي للإنسانية لدى منظمة “اليونيسكو”، مثلما حدث مع أغنية “الراي”. يبدو لي أن أية مساع تهمل مثل مرسم “سل همومك”، وجمعيات ثقافية أخرى على الهامش بعيدة عن الأضواء تهتم بهذا الموروث الموسيقي والثقافي، وإهمال دراسة هذه اللقاءات الفنية الهامشية انتربولوجيا واجتماعيا، تجعلنا على هامش الهدف المرجو من هذا المشروع.