قبل عامين، جف سد حمدانة ببومرداس، وجابت الصور الفاجعة، عوالم الميديا الاجتماعية وتفاعل معها الناس. حينها تشاءم الكثيرون. وكيف لا، والجفاف من أعظم الطامات التي تضرب أي استقرار بشري. في تلك السنة انحدر منتوج العنب بالمنطقة، انحدارا ملحوظا، لأن الرياح ساخنة، أو “لسيريكو” كما اصطلح على تسميتها، أتت بجفاف طارئ، والعنب لا يحتمله. إذ يحرق أوراقه، ويجفف الأرض.
ومن تعقيد فلاحة العنب، فإن الجفاف نعمة ونقمة، كما أن الرطوبة نعمة ونقمة أيضا. الفلاح الجيد وحده القادر على بيان الظروف، والارتجال لما تقتضي الحاجة، بل والتأقلم كما هو الحال اليوم. وذلك لضرورات المناخ، والمرض الذي يصيب العنب، أو للحرائق، ولكساد السوق وانخفاض الأثمان. المحصلة، فلاح يبدأ عامه بديون وينهيها بديون، وكأنه “شهار عند الدولة“. وهذا تعبير يستعمله كثير من الفلاحين في هذه الشعبة، حين ينتهي الموسم، ويحصون أرباحهم.
وقبل شهرين، جف سد حمرونة بأعالي سيدي داود، منطقة ساحلية، وضاحية من ضواحي مدينة دلس العريقة. انتاب الكثيرين من أبناء المنطقة الشعور ذاته، خاصة وأن السد قد جف لأول مرة منذ موجة الجفاف التي اجتاحت المنطقة سنة 1983، ولكون هذا السد أيضا موردا معتمدا لفلاحة الكروم بمنطقة لها حصة كبيرة من الإنتاج الوطني.
وللعلم فإن بومرداس هي أكبر ولاية منتجة للعنب، إذ تتراوح النسب المنشورة بين 48 إلى 56 في المائة من إنتاج البلاد، حسب الموسم ووفرته. وإن منطقة سيدي داود، ببغلية في برج منايل وامتدادها حتى لقاطة، تمثل نصف إنتاج العنب في الولاية، وعليه فإنها بحسبة بسيطة تمثل ربع الإنتاج الوطني.
فلاحون مجبولون على التأقلم
في منتصف تسعينات القرن الماضي، خربت محطات الضخ في ثلاثة سدود ببومرداس، منها سد حمرونة اللذي يبلغ طوله أكثر من 3 كم وعرضه يقارب الكيلومتر، والواقع في أعالي منطقة السوانين، بين تلال سيدي داود. ومنذ تلك الحادثة بقي وقفا طبيعيا للفلاحين، الذين عملوا على شراء مضخاتهم الخاصة. وهي مضخات تصب في واد تجري مياهه نازلة نحو برك كبيرة، حفروها حتى يقربوا مصدر الماء نحو أراضيهم.
وقد وصل طول الخطوط حسب شهادات أبناء المنطقة إلى 11 كم، تضخ فيها المياه بمحركات 6 سلندر، تعمل بالمازوت، يتعاون الفلاحون على شرائها، إذ يغطي مساحة تمتد من العرجة حتى الساحل بوبراك ومن سوانين صعودا حتى أولاد عيسى، كما كان باعة المياه بالصهاريج يلجؤون إليه لملء خزانات مياههم ثم بيعها للفلاحين بالمناطق العالية التي لا تستطيع أنابيب الضخ بالمحركات سقيها، لضعف ضغطها الهيدروليكي، أو لأصحاب الأراضي البعيدة عن مصادر المياه.
كرس هذا النمط من السقي، والاعتماد على الذات، تبذيرا في الماء عند السقي، وتوزيعا غير عادل للموارد. إذ يسقي الفلاحون الأقرب من السد أكثر من غيرهم. فلما كان حال السد مليئا، ما كان هذا النمط السلوكي ليكون مشكلة. ولكن لأن الطبيعة اقتضت مجرى آخر، فإن السؤال الذي يطرح الأن هو كيف يمكن ضبط هذه الممارسة؟
كما أن اختلال المناخ المعتدل الذي كانت تمتاز به المنطقة المتوسطية عموما، جعل الفلاح أمام ضرورة أخرى. وهي: تحيين معرفته بحرفته استجابة للتحديات الجديدة. فعلى سبيل المثال يأتي اختلاف نسبة الرطوبة واختلاف درجة الحرارة بأمراض مختلفة. وكل مرض وطريقة علاجه. ففي الرطوبة ينتشر العفن أو “الميلديو“. في الجو الجاف يصيب الكروم “الأوليديوم“. بعض الأمراض تصيب العنب في بداية موسم السقي وأخرى تحدث في مرحلة نضج العنب. ما يجعل الفلاح دوما في حال تأهب وترقب، وأي خطأ قد يكلفه الموسم كله. وأحيانا قد يكلفه عمر “الدالية” كاملا ومنه البداية من الصفر.
في يوم 24 جويلية الماضي، راسل النائب في البرلمان دايم الله رابح عن ولاية بومرداس، والمنتمي لحركة البناء الوطني، وزير الري، يطالبه بالتدخل العاجل لتنقية سد حمرونة وسد حمادنة، بولاية بومرداس، قصد تعميق أحواضهما أكثر ومنه رفع سعة الاستيعاب. يقول النائب دايم الله في تصريح لتوالى:” اتصل بي مواطنون من أجل أن نجد حلا للأسماك التي يعج بها السد، إذ كان لازال ممكنا الإتيان بصهاريج مياه ترفع منسوب المياه، على الأقل بما يكفي حتى لا تنفق الأسماك، لكن تعذر ذلك، إذ كان ارتفاع المياه في السد لا يتجاوز خمسة أمتار، علما أن قعره كله طين غليظة مترسبة منذ سنوات “.
رد متأخر واستجابة قد تطول أكثر !
ورد وزير الري بعدها بعشرين يوما في بيان “أن الوكالة الوطنية للسدود والتحويلات أشرفت على عملية خبرة لتشخيص حالة السدين، وقد انطلقت في الميدان شهر جوان 2025، قصد معرفة الإجراءات التي يجب اتخاذها للرفع من فعالية سدي حمرونة وحمدانة، وعليها تتحد الأشغال الضرورية، وتدرج ضمن البرامج التنموية المستقبلية“. كما طالب النائب دايم الله نيابة عن الفلاحين، بإصلاح منظومة السقي المصاحبة للسدين، وكان رد البيان أنه في عام 2023 أجريت دراسة شاملة لمحيطات سقي ثلاث في بومرداس، في مناطق سيدي داود، كاب جنات، الناصرية.
وإن كانت الدراسة أجريت قبل عامين من الأن، فإن تأهيل المحيطات سينتظر حتى 2026 أو ربما أكثر، إذ ورد في البيان أنه قد اقترح عدة عمليات إصلاحية وتأهيلية في قانون المالية لسنة 2026. ويتعلق الأمر بعمليات هي:
– تأهيل محيط السقي بالساحل بوبراك، وكاب جنات، لتمديد نطاق السقي لما يفوق 650 هكتار، و500 هكتار، على التوالي.
– وإنجاز ثلاثة حواجز مائية عبر الولاية، من بينها بلدية سيدي داود، وكاب جنات، لتمديد محيط السقي فيهما لما يفوق 250 هكتار، و150 هكتار على التوالي.
ورغم أن اقتراب موسم الأمطار يعني أن سد حمرونة الجاف حاليا، قد يمتلئ مرة أخرى، إلا أن تأخر عملية إزالة الطمي، يعني بالضرورة عدم الاستفادة من قدرته الكاملة في الاستيعاب. الطبيعة لا تنتظر القاعدين. وعليه فإن ثقل الاستجابة يجبر الفلاحين على التأقلم مع هذا الواقع والإتيان بالمياه من جهات أخرى. الكثير منهم يلجؤون إلى خيار السقي بالصهاريج لأن أراضيهم ليس فيها مياه آبار. وهذا ما يثقل “كارني الكريدي“.
يقول الفلاح ياسين من سيدي داود لتوالى: ” إن الفلاح هنا يبدأ موسمه بشطب ديون الموسم السابق، وتسجيل ديون جديدة للانطلاق في الموسم الجديد“. يضيف بدارجته العفوية “مول الدوا يسال، مول الما يسال، مول السماد يسال، مول التراكتور يسال، كامل يسالو“. لا يوجد إلا العاملون الذين يشتغلون على شذب الكروم أي ” الزبير” وغيرها من مهام “الجورنية” ممن يتقاضون أجورهم مباشرة في نهاية اليوم. البقية كلهم، تحفظ حقوقهم حتى نهاية الموسم.
ففي حين أن تغير الظروف يضع الفلاحين دوما تحت ضرورة التأقلم ورفع التحدي. يجد الفلاح نفسه ببومرداس مضطرا، اضطرار اليائس، أن يعتمد على ذاته في تأمين المياه والموارد. ليس لغياب المورد فقط، بل أيضا لغياب التنظيم والاستباق والدعم اللازم من قبل أجهزة الدولة.
هوس الأرقام
نقلت الأرقام المنشورة على وسائل إعلامية مختلفة والتي تحيل إلى مصادر حكومية عام 2021، أن محصول العنب تجاوز 8 ملايين قنطار، ثلاث ملايين منها زرعت عبر أزيد من 16000 هكتار ببومرداس. ثم في 2022، نشرت وكالة “فاو” التابعة للأمم المتحدة أن محصول العنب بلغ 6.7 مليون قنطار. منذ ذلك الموسم شهدت هذه الفلاحة خاصة ببومرداس، نكوصا كبيرا. إذ تراجعت ما دون 5 ملايين قنطار لثلاث مواسم متتالية. وكان موسم 2023 هو الأسوء بسبب موجة الحر الخاطفة.
ورغم أن مساحة الأراضي المزروعة المنتجة وغير المنتجة في هذه الشعبة، ارتفعت، إلا أن الإنتاج ضعف ومردود الفلاح متذبذب. فقد بلغت المساحة الإجمالية بالولاية قرابة 21000 هكتار، منها 18000 منتجة. أي بزيادة تفوق ألفي هكتار مقارنة بما كان عليه الحال قبل أربع سنوات.
وقالت يمينة بوسومة، ممثلة مدير المصالح الفلاحية بالولاية، أن الحصاد المتوقع من محصول العنب “سيكون أعلى مقارنة بالعام الزراعي السابق“. موسم حصد فيه نحو 4.6 مليون قنطار. أما عن هذا الموسم فقالت أنه من المترقب أن يتجاوز المحصول 5 ملايين قنطار، وبنسبة إنتاج تتراوح بين 250 و260 قنطارا للهكتار الواحد. إلا أن انطباعات محمد تونسي، رئيس الغرفة الفلاحية لبومرداس تحيل إلى نفي الزيادة في محصول العنب هذا الموسم. وانطباعات فلاحين آخرين أكدت هذا الطرح، إذ أن المرض أصاب نسبة تقارب عشرة بالمئة من كروم “الكاردينال“.
ويشير حال سوق الجملة إلى هذه اللحظة بأرباح مقبولة تعود للفلاح، على اختلاف النوعية التي يبيعها وجودتها. وصل سعر العنب متوسط الجودة العام بين 70 و80 دينار، بهامش ربح يقارب 20 دينار في “الكيلو“. أما عالي الجودة، فيبدأ سعره من 120 دينارا فما فوق، حسب نوعه.
ويلزم الواقع المهتم بهذه الفلاحة وبأخبار الفلاح، أن يعي جيدا الفرق بين المستثمرات الفلاحية الواسعة، وتلك الأراضي الصغيرة التي يكون عنبها أشبه “بفلاحة العولة” منه إلى الاستثمار الكبير. ومن الواضح أن المستثمرات الفلاحية الكبرى أكثر قدرة على تحمل تغيرات الواقع وطوارئه، لأنها أكثر وفرة في الموارد، وأكثر قدرة على خلق الحلول، والأهم من كل هذا أن أمامها إمكانيات ربح أكبر، وعليه قدرة أكبر على تغطية الخسائر في حالة الطوارئ والأخطاء.
بالمقابل، فإن الفلاح التي أرضه صغيرة، لا تسمح له أن يجهزها بكل ما يلزم. فمثلا في موسم وفير، قد تصل كمية منتوج المستثمرات الفلاحية إلى حدود 500 قنطار في الهكتار. أما الأراضي البسيطة، فحدها المائة قنطار. يعود ذلك إلى البنية التحتية للمزرعة، التي تبنى حتى تسند الكروم وتشده أكثر كي يثمر أكثر. “فالعريش” مثلا يحتاج مساحة شاسعة حتى لا يكون مكلفا. والأحواض المائية الكبيرة تحتاج أيضا إلى مساحات شاسعة حتى تحفر. وأحيانا إلى “جمايع” حتى تمول، لأن الحمل على الجماعة أهون.
وقد يحدث أن يهرب الفلاح من حرفة العنب إلى حرفة أخرى، إذا خسر موسمه أو ضاق به هامش الربح. كما يثقل “الكريدي” من غلاء تكلفة الدواء المستورد ووقع المضاربة عليه. وتزيد كلفة “الخدامين“، خاصة إن وقعت تغيرات مناخية غير مفهومة. إذ أن المناطق الرطبة المعرضة لرياح ” الشرقي” غير تلك التي تتعرض لرياح “القبلي“. وهذا يؤثر على الأنواع المغروسة، ونوعية الدواء والكمية.
بين الكساد وضرورة التصدير
وذهب بعض الفلاحين إلى التساؤل حول مدى جدوى تركيز نصف فلاحة العنب بالبلد، في منطقة واحدة. خاصة أن العنب يغرس في مناطق أخرى من البلاد. كما أن فيه من النوعيات ما تكون وفيرة حتى تحت الحرارة الشديدة، بشرط أن تسقى جيدا.
وإنه لمن الغريب أن تتكرس ثنائية ذات علاقة طردية بين وفرة المنتوج وانخفاض أرباح الفلاح. وكأن الفلاح لا يربح إلا في زمن ندرة ما ينتج. رغم أن كل همه أن لا يدع شبرا في أرضه إلا وجعله ولودا. وقد تكون الحقيقة، أن هذا المؤشر ينبئ بأن السوق متشبع من هذه المادة. وأن الطلب عليها قليل أو غير ملح. كما يمكن أن تعني أن العنب تنافسه فواكه أخرى مثل “النيكتارين” والدلاع و”البتيخ“.
بالمقابل، أصبحت ضرورة التصدير وربط الفلاحة بالصناعة التحويلية وزيادة كفاءة التخزين، أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. إذ ستضمن كسر هذه الحلقة المفرغة اليائسة.
ويعتبر الكثير من الفلاحين، التصدير حلا استعجاليا، لكسر حالة الركود التي تصيب مواسم كل سنة مؤخرا. حتى لتجدهم عند حلول موسم الجني والحصاد متشائمين وكأن بهم رهابا ما. والحل واضح بالنسبة لهم “حرروا مبادرات التصدير“.
ولكن هذا الخيار مستبعد لغياب برنامج واضح يسير عليه المعنيون جميعا، من الفلاحين والمصدرين والأجهزة الحكومية وغيرهم من المتعاملين الاقتصاديين.
إذ أن التصدير يعني المنافسة، والمنافسة تتطلب دراسة أسواق البلدان التي يصدر نحوها المنتج. ومنه وضع بطاقة تقنية دقيقة تكون دليلا للفلاح المنتج وتعريفا بالمنتوج بالنسبة للمستورد. عليها يبنى رسوخ المنظومة التجارية ومردودها.
كما يمكن للصناعة التحويلية أن تؤدي الدور ذاته للتصدير. فكما لفلاحة الطماطم صناعتها التحويلية، يكمن أن يكون للعنب الحظ ذاته. زبيب أو عصير أو مربى، أو حتى النبيذ. وإن كان الحديث عنه يكتسيه الغموض رغم وجوده الاقتصادي. كلها خيارات متاحة، وكلها منتجات مستهلكة. غير أن الشرط ذاته يعود : التخطيط المبرمج والاستباق المدروس. فهوس البيروقراطية بالورق لا يعني بالضرورة مسودات حلول، أو برامج مستقبلية.