يعود الجدل في الجزائر منذ إعلان الرئيس تبون عن انتخابات رئاسية مسبقة في سبتمبر2024 حول مدى تسييس المجتمع الجزائري واستعداده للانخراط في مسارات للتغيير، خاصة بعد العزوف غير المسبوق عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية منذ 2019 وتراجع نسبها بدرجة عالية وصلت في الانتخابات الرئاسية التي أوصلت تبون إلى الحكم إلى 39.8% وفي الاستفتاء على الدستور23.03 %. ويقترن هذا العزوف بعودة اللامبالاة تجاه قضايا التغيير الديمقراطي، والسبات الذي لجأت إليه الأحزاب السياسية بعد مجيء الرئيس الحالي للبلاد.
ففي حين تراهن السلطة السياسية على آلية الانتخاب من أجل الخروج من أزمة الشرعية التي مازالت تلاحق الرئيس تبون، يبقى السؤال مطروحا في ظل هذه المعطيات حول إمكانية وصول معارضة حقيقية إلى الحكم عن طريق انتخابات نزيهة، ضمن هذه البيئة السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها الحراك الشعبي ؟ خاصة بعد ما ألت إليه أوضاع بلدان ماعرف بالربيع العربي، كتونس التي توقفت فيها عجلة التغيير منذ حل البرلمان، ومصر التي تعيش أحلك أيامها تحت حكم عسكري استبدادي، والعراق الذي مزقه العدوان الأمريكي ثم الطائفية، وانكشاف المخططات الدولية للتطبيع مع الكيان الصهيوني وتداعيات حرب غزة وأكرانياعلى العالم ككل.
يشمل هذا الطرح فكر وسلوكات فئات وازنة من النخبة السياسية والفكرية، التي لم تبد أداءا مبشرا فيما يتعلق بمشروطيات التغيير الديمقراطي في الجزائر كما يتجلى ذلك من خلال عودة أحزاب السلطة إلى احتلال غالبية مقاعد البرلمان. وهذا سواءا كانت نخبا محسوبة على التيار الإسلامي والتي عرفت بالأكثر تنظيما على مستوى القاعدة كحركة مجتمع السلم وتفننها في إنقاذ السلطة بدليل أته كلما ترشح رئيسها سارعت لعزله بطريقة غير مباشرة تفاديا لإغضابها، أو المحسوبة على باقي التيارات.
فالنخب العلمانية اليسارية غارقة في النخبوية ونفي الاخر، حتى أنها فقدت بوصلتها تماما لدرجة إصدارها بيانات تستعمل فيها لغة الإسلاميين مثلما حصل بخصوص التنديد بالحرب على غزة، فيما تبقى باقي أحزاب التيار الوطني تنتحل صفة المعارضة رغم أنها لم تحاول يوما الوصول إلى السلطة مثلما تقتضيه تقاليد العمل السياسي.
ويبقى العامل المشترك بين كل هاته الأحزاب السياسية هو رفض الجماهير لها بالمقاطعة الانتخابية لافتقارها للبرامج والتوجهات الواضحة والاستقلالية عن السلطة نفسها. فحتى السلطة ممثلة في الرئيس تبون تتبرأ منها حيث أعلن هذا الأخير صراحة في بداية عهدته عن رغبته في استبدالها بالمجتمع المدني، وأغرب سلوكاتها أن أغلبها يسارع لدعم مرشح السلطة حتى دون معرفة من يكون على غرار مايحدث في الرئاسيات الحالية، ما يوحي بوقوفها مع السلطة وليس شخص مرشحها.
كما يشمل هذا الطرح ” حملة الشهادات “، المحسوبين على النخبة والمشهود لأغلبهم بالتفاني في خدمة السلطة في بلاطوهات التيليفيزيون واحترافهم في تحويل أنظار الرأي العام عن قضايا الفساد والمشاكل الحقيقية، بابتكارهم لقاموس بلغة الخشب من قبيل ” القوة الخارقة، الجبهة الداخلية، الخطر الخارجي، تكريس منحة البطالة وأن العدد الحقيقي لمناصب الشغل المستحدثة ليس بمعيار لنجاح برنامج الرئيس“.
كان لكل هذه النخب موقفا مترددا غداة الحراك الشعبي خاذلا لمطالب الجماهير المتظاهرة كما أنها لم تعقب على مسوغات تسبيق موعد الانتخابات الرئاسية في 2024، بل وذهب بعضها بعيدا في تبني وجهة نظر السلطة حتى قبل معرفة أسباب ودوافع هذا الاستباق، ومازاد من مياعة هذه النخب لدى الرأي العام ارتماء بعض الوجوه البارزة في الحراك ممن نال بعض ” الشرعية ” بدخوله إلى السجن في أحضان السلطة مرة أخرى، الأمر الذي عمق أزمة الثقة في المبادرات الصادرة عنها.
يستدعي هذا مستوى َآخر من السؤال وهو حقيقة التصورات الذاتية للفاعلين السياسيين من سلطة وأفراد وأحزاب ومجتمع مدني، حول مفاهيم التغيير والثورة والديمقراطية قبيل ثاني تشريعيات بعد حراك 22 فيفري 2019 ؟ وكيف يتم التعبير عنها في سلوكياتهم وأحاديثهم اليوم ؟
الشعبوية القاتلة
كان لحراك 22 فيفري 2019 في الجزائر مطالب عبر عنها بشعاراته وهتافاته ترتكز على بديهيات كالديمقراطية والحرية والكرامة ومواجهة الفساد والفاسدين. وتعي قطاعات واسعة من الشعب الجزائري منذ التسعينيات بأن هذه المطالب تطور لا مناص منه في العالم أجمع منذ اجتياح رياح التغيير الديمقراطي أوروبا الشرقية وبعض الدول من أمريكا اللاتينية. هل مازال المجتمع الجزائري يصبو إلى تغيير في هذا الإتجاه ؟ ما هو مفهوم التغيير لدى من كان يتطلع إليه داخل المجتمع الجزائري ؟ ماذا بقي من هذا المفهوم بعد ما يقرب من 5 سنوات على رفع مطالب الحراك الشعبي في 2019 ؟ هل تجددت الطبقة السياسية لتواكب التغيير أم أنها أهم عوائقه ؟
هناك الكثير من التشويش والتضارب في بعض تصورات التغيير التي حملها من خرجوا في حراك 22 فيفري 2019، عكستها شعارات مثل ” يتنحاو قاع“. فإذ عبرت حينها عن رغبة في تغيير الطبقة السياسية بأخرى جديدة منتخبة، فقد عكست بالمقابل شعبوية في الطرح لاتزال تلازمها، وهي غيرمستعدة لتقديم كوادر سياسية تمثلها أو إبراز تنظيمات مستقلة.
غذت السلطة هذه الشعبوية بفرض ممثلين وهميين للمجتمع المدني واعتماد أحزاب جديدة دون أخرى بقيادات لا تملك الكاريزما اللازمة ولا تحضى بأي تمثيل حقيقي وعينت بعض الإطارات الشبانية في مناصب عليا للإيهام بالإستجابة لمطلب تشبيب الطبقة السياسية. كما عمدت إلى شيطنة بعض شعارات الحراك مثل ” مدنية ماشي عسكرية “، وربطه بحركتين تم حظرهما وهما الماك ورشاد. والنتيجة تعمق الفجوة بين الفاعلين السياسيين حول آليات التغيير (الانتخابات، تغيير النظام أم الانفتاح على الحريات) وعزوف المواطنيين عن الانتخاب منذ 2019.
في سياق آخر، ارتبطت مطالب الحراك بالكرامة الفردية والوطنية ومفادها إرساء دولة الحق والقانون ووضع حد لإهانة المواطن في يومياته من منظور حقوق الإنسان التي تكفلها جل الدساتير في العالم بما فيها الدستور الجزائري. لا تزال كرامة المواطن مطحونة بالبيروقراطية وقد مثلها رئيس البلاد الحالي في إحدى مقابلاته الصحفية بعبارة ” بلا ربي ماراكم راكبين”. وتراهن السلطة على القضاء عليها ب ” الرقمنة ” التي تحولت الى شكل جديد من البيروقراطية ونحن على مشارف نهاية العهدة الأولى للرئيس تبون. وهي تتحول تدريجيا إلى أحد وعود العهدة الثانية.
وفي هذا الإطار، تقدم الآلة الدعائية للنظام تعميم منحة البطالة لتشمل الوافدين الجدد إلى سوق العمل كإحدى نجاحات عهدة الرئيس تبون برغم عدم جدواها الاقتصادية وترسيخها للكسل لدى شباب في أوج نشاطهم العقلي والبدني. وتشيد بتنصيب أسواق الرحمة في الأعياد والمناسبات كحل في مواجهة ندرة بعض المواد الأساسية والتضخم الذي وصل إلى حدود غير مسبوقة. كما تبرر الندرة والتضحم بجشع التجار.
واقترن نقد هذا الوضع في الخطاب السياسي بالتخوين واتهام الناشطين السياسيين بتهديد الوحدة والمصالح الوطنية من أجل تبرير القمع. حيث استثمرت السلطة في الأزمات الديبلوماسية مع العديد من الدول والجيران لوضع العدو الخارجي كفزاعة تجيز غلق الفضاءات العمومية. وتسلحت بأدوات جديدة للقمع بتوسيع تعريف الإرهاب وتعديل القوانين التي تنظم الحريات والحقوق العامة كقانون ممارسة الحق النقابي وتنظيم نشاط وسائل الإعلام والأحزاب السياسية وآخرها قانون العقوبات. فقد تم الزج بأكثر من 500 شخص في السجن تطبيقا لهذه القوانين القمعية.
خلقت هذه السياسة القمعية حالة من اللاأمن القضائي والمجتمعي ولم تقنع عملية ” الأيادي البيضاء” التي قامت بها السلطة في سبيل استرجاع هيبة الدولة والتي نتج عنها وضع 3 رؤساء حكومات و43 وزيرا و47 واليا و22 جنرالا في السجن بصدق نية السلطة في محاربة الفساد الذي ينخر أوصال الدولة. ورسخت محاكماتهم قناعة بأن هذه العملية عبارة عن تصفية حسابات سياسية أكثر منها إحقاق للعدالة بالنظر للخروقات المتعلقة بالإجراءات الجزائية التي يندد بها المحامون في كل محاكمة.
هبوط سقف المطالب
غيب غلق الفضاءات العمومية الحديث عن قيم المواطنة والتغيير الديمقراطي وتم الالتفاف حول مطالب التغيير الأساسية وإفراغها من محتواها بدسترة الحراك ومباركته بتخصيص يوم وطني له. واصطبغت المدرسة والجامعة والاحتفاليات الرسمية بالبدلات العسكرية في إطار آمننة وأسلمة الشأن العام تحت شعار تقوية الجبهة الداخلية وهو إحدى تجليات الخطاب المهول للتهديدات المزعومة للوحدة الوطنية من قبل أعداء خارجيين وداخليين مزعومين.
لكن بغض النظر عن أسباب انقطاع الصلة بين المجتمع والنخب السياسية التي كرسها النظام وآليات الاحتواء لديه، يبدو أن الجماهير الثائرة على السلطة في 2019 لم تتحرك سوى ضمن الإطار المفاهيمي لهذه السلطة وما توافق عليه وتحدده أيديولوجيا. وربما حال المجتمع الجزائري لا يسمح بتقديم بديل وتحقيق تصورات معيارية جديدة في وجود لغة مشتركة بينه وبين السلطة التي ثار عليها يستثمر فيها النظام جيدا وهي التكفل بالمسألة الاجتماعية بفضل مداخيل الريع البترولي.
ما هو واقع قيم التحضر في تعاملات المواطن الجزائري اليومية، كاحترام المرأة، والتعايش السلمي والتضامن التي عبرت عنها جموع المتظاهرين في لافتات وأهازيج وأغاني وجداريات الحراك الشعبي؟ أم أنها صور كانت موجهة للتعاطف الخارجي؟ إن تفشي الغش وتكريس التوظيف والتعيينات بالزبائنية والنعرات الجهوية والتنابز بالألقاب (قهوي – زواف – زطشي – بوصبع) والتحايل في كل المجالات بما فيها المدرسة لا يساعد على بناء المواطن وإرساء الحريات. ولا يكفي استبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية حتى تترسخ هذه القيم لديه.
واجهت السلطة عجزها في بناء دولة اجتماعية قائمة على المساواة والديمقراطية والارتقاء بالمجتمع عن طريق العلم والتعليم والاندماج ضمن المنظومة الكونية لحقوق الانسان والمفهوم الجماعاتي عن الحرية – وهي المبادئ التي تضمنتها كل مواثيق الدولة الجزائرية وتغنى بها الحراك في بداياته – بمحاولة كسر هذا الإجماع.
ولم تتوان في شحن مفردات من قبيل ” زواف ” و ” شباب سليل جيش التحرير الوطني ” بكل دلالاتها المتوارثة في المجتمع الجزائري ووصف من خرجوا في الحراك بالعملاء والخونة والطابور الخامس بعد أن أشادت بهم، وها هي اليوم تجرم من يتضامن معهم بموجب قانون العقوبات المعدل في 5 ماي 2024.
وبعودة البحبوحة المالية مع ارتفاع أسعار النفط، تحول توزيع الريع في شكل زيادات في الأجور رغم التضخم المرتفع وتوزيع السكنات واستيراد اللحوم والاستمرار في نهب المال العام ومنحة البطالة لحد أدنى من مطالب الشعب وبديلا اجتماعيا عن بناء اقتصاد حقيقي يخرج البلاد من الأزمة.
وهو ما يفسر قدرة النظام على التعافي وإعادة إنتاج نفسه بعد كل أزمة، فالنظام لم يواجه بمطالب يمكن أن تؤدي لتغيير حقيقي للمجتمع القائم ومؤسساته جذريا كما حدث في ثورات الحداثة في فرنسا وأوروبا على غرار المطالبة بالعلمانية مثلا، بل كان المطلب الأساسي في كل مرة تحديث النظام ليكون نسخة أفضل من سابقتها. فالممكن عادة ما ينخفض سقفه مع مرور الوقت، وهو ما تجلى في الانقسام الذي حدث عشية إجراء الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2019، أين تحولت هذه اللعبة الشكلية إلى حد أدنى من المطالب للحفاظ على النظام العام من بعض أطياف المجتمع والسلطة معا، والتي سمحت للنظام بإعادة بناء شرعيته.
باختصار، يبقى التصور الداخلي الذي نقدمه عن الفاعلين الاجتماعيين وتصوراتهم للتغيير والثورة، ومدى انسجامها مع مطلب التغيير الديمقراطي، مرهونا بوجودهم الاجتماعي الذي يحدد طبيعة تفكيرهم على رأي ماركس. فإن كان يمكن للأفراد صناعة التاريخ ففي الغالب لا يكون على هواهم وحسب ظروف يختارونها بأنفسهم، كما تبقى مفاهيم التغيير والثورة رهينة التراكم التاريخي للشعوب في التجارب والممارسات.
والأجدر بالأحزاب السياسية التي ماتزال توهم نفسها بممارسة السياسة دون شرعية شعبية البحث عن ضمانات توافقية تكون دعامتها الحريات الفردية والجماعية كأولوية من أجل استرجاع الثقة لدى من يفترض أن تكون حاضنتها الشعبية وقاعدتها الانتخابية.