يوم الجمعة االفائت، شاهد عشرات الآلاف من اللبنانيين في رعب سقوط رجل أعمال على الهواء مباشرة خلال مقابلة مصورة عبر تطبيق زووم مع اثنين من الصحفيين الاستقصائيين .
وكان الصحفيان، رياض قبيسي وهادي الأمين، يحاولان منذ أشهر كشف انتهاكات نظام الدعم الحكومي الذي تم اتهام رجل الأعمال شكر الله المعلوف وغيره باستغلاله.
وعندما واجه الصحفيان معلوف يوم 28 أكتوبر شوهد وهو يسقط على الأرض. شاهدا مصدومين أفراد أسرته ينادون باسمه ويحاولون إيقاظه حيث توفي في وقت لاحق بالمستشفى ودفن جثمانه يوم الأربعاء، وأصدرت إدارة تلفزيون الجديد بياناً قدمت فيه التعازي للعائلة و المشاهدين.
كان الحدث مأساة مروعة أصابت الجميع بالذهول والحزن. وقد تفاجاء فريق البرنامج بما وقع على الهواء فيما كان الضيف يقدم دفاعه عن تجارته ويدلي بآرائه بناء على طلبه الشخصي بالظهور المباشر بحسب إدارة القناة.
ولسوء الحظ، يستغل الكثيرون في المؤسسة السياسية الفاسدة في لبنان الآن الحادث بسخرية في محاولة لتأليب الرأي العام ضد القلة القليلة المتبقية من الصحفيين المستقلين في البلاد وتحفيز السلطات لإسكات زملائنا اللبنانيين عبر تشديد القوانين وإستخدام السلطة القضائية وحسابات وسائل التواصل الإجتماعي. ظلّ برنامج “يسقط حكم الفاسد” بإدارة قبيسي لسنوات سكّينا في خاصرة الطبقة السياسية الفاسدة، والتي تبدو قادرة على أن تتفق فقط عندما يتعلق الأمر بسرقة المال العام.
وأدى الفساد المستفحل إلى تحويل لبنان من دولة الطبقة المتوسطة إلى مستنقع مختل منقسم بين نخبة ثرية وغالبية السكان، الذين بالكاد يجنون لقمة العيش ويواجهون فقراً مدقعاً، إلى أن وصلهم مؤخراً مرض الكوليرا الذي سيق أن انتصرت عليه البشرية ليعود وينبعث من بين ركام الفساد في لبنان.
في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأزمة مالية وانفجار كارثي في مرفأ بيروت عام 2020 – وكلاهما في نهاية المطاف نتاج الفساد والمحسوبية والمحاصصة الطائفية – عمل قبيسي والأمين على فضح المخالفات الرسمية ومحاسبة السلطة.
ولهذا السبب، يتم تحويلهما الآن على ما يبدو إلى كبش فداء من قبل منظومة الفساد برعاية رسمية، وتتم الإساءة إليهما على وسائل التواصل الاجتماعي، ويتعرضون لتهديدات قانونية من قبل عائلة التاجر الراحل.
كان معلوف يدير شركة في مجال علف الحيوانات واتُهم مع تجار آخرين بالاستفادة من عملية احتيال قام بها التجار بتضخيم الفواتير للحصول على مبالغ كبيرة بالدولار الأميركي بسعر الصرف الرسمي – وهو جزء صغير من سعر السوق السوداء – ثم استوردوا سلعاً مثل الأعلاف والاسمدة وباعوها. (كما زُعم أنهم قاموا بتهريب البضائع إلى سوريا ويحتمل ان يكون القمح المدعوم من ضمنها. عند مواجهته لم ينكر التهريب عبر المعابر غير الشرعية ولكنه نفى أن يكون القمح المهرب مدعوما.
استخدم قبيسي والأمين تسجيلات صوتية مسربة ووثائق ومعاملات مصرفية لإثبات تورط معلوف. ومع ذلك لم يكن ذلك هو هدفهما. كانا يتوقعان منه أن يأتي إلى البرنامج، ويفضح المسؤولين الذين ساعدوه. ولكن عندما ظهر معلوف، أنكر عملية الاحتيال، وهكذا بدأ الصحفيان في مواجهته بالأدلة.
كان قبيسي، وهو مراسل استقصائي حائز على جوائز دولية عديدة، والأمين يقومان بعملهما فقط و كانا يصرّان دائما على حق الرد لكل من يرد اسمه ضمن سياق التحقيقات الإستقصائية. وعلى مدى سنوات، بذلا جهودا كبيرة لمحاسبة السياسيين الفاسدين في لبنان، وأباطرة الأعمال، والزعماء الطائفيين . هذه الطبقة هي التي تسببت في الفظائع الحقيقية وهي المسؤولة عن الفقر والألم ببلد بأكمله.
ودفعت التحقيقات التي أجراها قبيسي مع مشروع تغطية الجريمة المنطمة والفساد العابر للحدود OCCRP بشأن محافظ مصرف لبنان المركزي رياض سلامة أربع دول أوروبية على الأقل إلى فتح تحقيقات في الاختلاس وغسل الأموال التي تورط بها حاكم مصرف لبنان الذي لم يكن من الممكن المساس به من قبل. كما ساعدت تلك التحقيقات في إظهار كيف قام نجل المصرفي بنقل ملايين الدولارات خارج البلاد بينما رأى معظم اللبنانيون مدخراتهم مجمدة.
وساعد قبيسي مع اثني عشر مراسلا وشريكا إعلاميا في OCCRP في الكشف عن هوية السفينة التي وصلت إلى ميناء لبنان في عام 2013 وعلى متنها 2,750 طنا من نترات الأمونيوم المتفجرة، حيث ظلت في ظروف غير آمنة لسنوات. أدى هذا القدر من الفساد وعدم كفاءة الحكومة الى قتل أكثر من 230 شخصا وترك 300,000 شخص بلا مأوى. وحتى الآن، لم يتم محاسبة أحد.
كصحفيين نتفهم أن عملنا يمكن أن يسبب الضرر في بعض الأحيان. الأشخاص الذين نحقق معهم يتعرضون أحيانًا للاعتقال والطرد والسجن والرفض من قبل أصدقائهم وعائلاتهم. هذا ما لا نريد أن نراه يحدث، ولا يمكننا التحكم في نبض قلب السيد معلوف.
بالتأكيد لم يرغب قبيسي والأمين في إيذاء معلوف. لقد أوضحا ذلك في كل ظهور تلفزيوني لهما منذ وقوع المأساة. لكن الكثيرين الآن يريدون الإصطياد في المياه العكرة، تماماً كما حدث بالفعل لعشرات من الزملاء الصحفيين.
يجب أن نتذكر من يقف حقاً وراء بؤس لبنان الحقيقي. الصحفيون يقولون الحقيقة، التي تؤلم في بعض الأحيان لأنها تكشف المستور. لكن أولئك الذين يصنعون هذه الحقيقة هم الذين يتحملون اللوم.