جار التحميل ...

بفضل بايسيرا، السوق الموازية للعملة في الجزائر تعتمد الخدمات البنكية الإلكترونية

في الجزائر، أصبحت " بايسيرا" (Paysera)، وهي شركة خدمات مالية ليتوانية، أكثر شعبية من البنوك المحلية بفضل السهولة التي تقدمها فيما يتعلق بعمليات صرف العملة. لكن إذا كانت خدمات هذه الشركة قد دفعت بالسوق الموازية إلى العصر الرقمي، ماذا عن المخاطر؟ تحقيق.


مكتب يُمكن من استلام بطاقات فيزا بايسيرا مقابل 3299 دج، باتنة ، ديسمبر 2021. صورة حمدي بعالة.

يقترب أحد المارة من مجموعة من الرجال الجالسين حول طاولة يلعبون الورق و يتبادل بضع كلمات مع أحدهم. يقوم العميل بعد ذلك بمسح رمز الاستجابة السريعة الموجود على هاتف تاجر العملات غير القانوني ليعطيه هذا الأخير المعادل النقدي بالدينار غير القابل للتحويل بعد أن تلقى تقريبًا 200 يورو. يدور المشهد في ساحة بور سعيد بوسط العاصمة الجزائر.  فقد صار الناس في هذه الساحة، و هي مكان رمزي لسوق العملة الموازية في الجزائر مذ وٌجدت، يعتمدون على التكنولوجيا الحديثة التي جعلت جزءا كبيرا من مبادلاتهم يتم في معاملات افتراضية.

في ذات الوقت، و على بعد بضع عشرات من الأمتار من هذا المكان، أين يوجد أحد ملاحق البنك المركزي و عديد وكالات البنوك التجارية المعتمدة، يتم فرض قواعد صارمة على العملات الأجنبية، مما يدفع الزبائن إلى تبادلها عبر المعاملات غير القانونية. و إذ تسمح لهم هذه المبادلات  بالتصرف في أموالهم بأريحيّة، فهي تفتح الباب أيضًا أمام احتمالات ضارة بالاقتصاد الوطني وأخرى غير مشروعة.

و ما جعل هذه القفزة ممكنة هي الخدمة التي توفرها تطبيقة ” بايسيرا” (Paysera)  و هي شركة خدمات مالية افتراضية مقرها ليتوانيا. يتم استخدامها في 174 دولة حول العالم، بما في ذلك الجزائر. وتمكن هذه التطبيقة عملاء الشركة من تلقي الأموال وإرسالها باليورو من وإلى حسابات  بايسيرا وكذلك إلى الحسابات في البنوك التقليدية. كما توفر الشركة إمكانية الحصول على بطاقة الائتمان الدولية فيزا وإجراء عمليات الدفع عبر الإنترنت.

في الجزائر، فرضت تطبيقة  بايسيرا  نفسها بين العديد من الخدمات المماثلة ك Payoneer، Wise، Skrill، إلخ، التي استخدمها الجزائريون لسنوات و لو أن ذلك كان على نطاق أصغر، بفضل سهولة استخدامها. و ما دفع بها إلى تصدر المشهد المصرفي في البلد هو الطلب المتزايد على الخدمات البنكية إذ أصبح الزبائن اكثر تطلبا منذ إدخال خدمات الجيل الثالث (2013) و الرابع (2016) للأنترنت في وقت بقيت المنظومة البنكية الوطنية بالية محافظة على جمودها.

تقول فايزة، 31 سنة، و هي عاملة في شركة خاصة بالجزائر العاصمة ومترجمة مستقلة في أوقات فراغها: ” إنه لجزء كامل من مدخولي لم يكن لأستفيد منه لولا بايسيرا “. وتضيف: ” لقد بدأت ترجمة النصوص على منصات الإنترنت لفائدة زبائن في أنحاء كثيرة من العالم في عام 2018 وكان عليّ إيجاد طريقة لتحصيل مستحقاتي“. بعد محاولتها استخدام حسابها البنكي في الجزائر من دون جدوى، إذ طُلب منها تقديم عقود عمل، فاقترح عليها أحد الأصدقاء استخدام بايسيرا.

مثل فايزة، يعمل الآلاف من مقدمي الخدمات بالجزائر من مترجمين و مخططين للرسومات البيانية و مبرمجين  على الإنترنت ويتلقون أجورهم بفضل هذه الخدمة الليتوانية.

راسلت ” توالى” المتحدث باسم بايسيرا عبر البريد الإلكتروني لكن هذا الاخير رفض الكشف عن عدد زبائنه الجزائريين  و الإفصاح عن القيمة الإجمالية السنوية للمعاملات من و إلى الجزائر. لكن هناك مؤشرات أخرى تجعل من الممكن تقييم استخدام الخدمة الليتوانية في الجزائر. على متجر  Google Play، تظهر بايسيرا في المركز السابع بين التطبيقات المالية التي تم تنزيلها في الجزائر، متقدّمة بفارق كبير عن تطبيقات البنوك الجزائرية مثل ” سوسيتي جينيرال الجزائر ” (Société Générale Algérie) التي حلت في المركز الثالث عشر (13) أو ” القرض الشعبي الجزائري” (CPA) الذي جاء في المركز الاربعين (40) و ” البنك الوطني الجزائري” (BNA) الذي يتبعه في المركز الثالث و الاربعين (43).  

” يجد الكل ضالته في هذه السوق”

تؤكد مصادر مطلعة على خبايا السوق الموازية للعملة أن بعض المعاملات على بايسيرا تصل قيمتها إلى عشرات الآلاف من اليورو. و هذا دون أدنى وجود للشركة الليتوانية في الجزائر. قال ألكساس روزينتاليس، مسؤول الاتصال في بايسيرا، ل توالى : ” إذا ما وضعت الجزائر تشريعات مناسبة للتكنولوجيات المالية، فيمكننا البحث عن شريك محلي لتقديم خدماتنا محليًا “.

لا يقدم مديرو بايسيرا شركتهم على أنها ” بنك” ولكن ك ” مؤسسة دفع إلكتروني“. في سبتمبر 2020، صرح كوستاس نوريكا، أحد المؤسسين والمساهم الرئيسي في بايسيرا : ” لسنا بنكًا ولا نعتزم أن نصبح كذلك، لكننا سنفتح فرعا ليكون بنكًا“. سيسمح هذا للشركة بتقديم خدمات أخرى، خاصة منها منح القروض.

إذا استقطبت بايسيرا جزءًا من مدخرات الجزائريين وحولتها إلى عملات أجنبية، فهل يمكننا اعتبارها منافسا للنظام البنكي الجزائري مع أن هذا الاخير لا يقوم بهذا الدور ولا يوفر وسائل فعالة للمعاملات تٌمكن من جذب الإدخار” تتساءل فتيحة طلاحيت، الخبيرة الاقتصادية والباحثة في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، والتي تركز أعمالها على تحولات الاقتصاد الجزائري التي جاءت عقب الحقبة الاشتراكية.

من جهة أخرى، تشكلت بيئة اقتصادية كاملة حول بايسيرا في الجزائر، فيها من يعرض خدمات توصيل بطاقات فيزا للزبائن  و من يتكفل بصرف العملات افتراضيا و حتى دفع معادلها النقدي بالدينار على الحسابات البريدية الجارية (CCP). في الأصل، معظم هؤلاء المقدمين للخدمات كانوا ينشطون في السوق الموازية للعملة على الطراز القديم قبل أن يطوروا خدماتهم مواكبة للتكنولوجيا.

عصام، تاجر يبلغ من العمر 47 عامًا بحي فرحات بوسعد (ex-Meissonier) بالجزائر العاصمة، هو أحد هؤلاء. يدير عصام صفحة على الفايسبوك  من متجره للملابس الجاهزة، حيث يعرض شراء وإعادة بيع أموال اليورو على  بايسيرا. يقول: ” هذا دخل إضافي كما أن هذه الخدمة تسمح لي بالحصول على مبالغ بالعملات الأجنبية من أجل استيراد الملابس “.

أوليست بالنسبة إليهم طريقة لتحرير سعر صرف الدينار دون جعل الدولة تأخذ أي مخاطرة، لأن كل المخاطر سيتحملها الخواص ؟

فتيحة طالاحيت

نشأت السوق الموازية للعملة في الجزائر بعد صدور القانون رقم 78/02 المؤرخ 11 فبراير 1978. منح هذا النص، الذي وقعه الرئيس الراحل هواري بومدين، الدولة وهياكلها سلطة احتكار التجارة الخارجية. و تطبيقا لذلك تم وضع رقابة صارمة على صرف العملات على مستوى البنوك، وكان على المتعاملين الاقتصاديين الخواص وكذلك الأفراد الذين يحتاجون إلى صرف العملات الأجنبية بالدينار أو العكس، مثل المسافرين أو المواطنين الجزائريين المغتربين، إيجاد طريقة لسد حاجياتهم من مختلف العملات.

حافظت الجزائر، كغيرها من البلدان الاشتراكية الأخرى، على سياسة قائمة على نظام أسعار الصرف المتعدد حتى عام 1990، حيث تخلت عنه بتوصية من صندوق النقد الدولي. بهذا الخصوص توضح السيدة طلاحيت : ” بدءا من هذه اللحظة، ستتسامح السلطات الجزائرية مع السوق الموازية للعملة كبديل لنظام أسعار الصرف المتعدد الرسمي، واستبدالها بسعر صرف مزدوج قانوني / غير قانوني مسموح به“.

وتضيف طالاحيت أنه مع تحرير التجارة الخارجية و انطلاقا من عام 1994، اتخذت السوق الموازية للعملة أبعادًا كبيرة، مما جعلها ” مؤسسة غير رسمية تأسيسية” للنظام النقدي الجزائري. ” لم تٌقمع هذه السوق بأي شكل من الأشكال من قبل السلطات، بل على العكس تمامًا، فقد تم دمجها في السياسة النقدية “، تشير الباحثة .

و يحافظ بنك الجزائر المركزي بشكل مصطنع على قيمة الدينار الرسمية مقابل العملات الأجنبية، إذ كانت دائمًا أعلى بحوالي 35 ٪ ​​منها  في السوق الموازية (في وقت كتابة هذه السطور، 1 يورو يساوي 157 دينارًا بالسعر الرسمي مقابل 214 ديناراً في السوق الموازية). و من هنا ظهر تجار العملة في جميع أنحاء البلاد، ينشطون في سرية، بممارسة صرف العملات إما كمهنة أو على هامش نشاط تجاري رئيسي.

في عام 2004، أصدر بنك الجزائر المركزي مذكرة تفسيرية فيها تعليمات إلى بنك التنمية المحلية (BDL) بالسماح للأفراد وأصحاب الأعمال الحرة (الصحفيين على وجه الخصوص) بالاستفادة فقط من 50٪ بالعملة الأجنبية من مستحقات خدماتهم، على أن تٌدفع الـ 50٪ المتبقية بالدينار

في الآونة الأخيرة، زادت اللوائح من تعقيد الوصول إلى العملات الأجنبية من القنوات الرسمية. وإذ أصدر مجلس الوزراء تعليمات بالسماح للمصدرين التصرف في كامل مداخيلهم بالعملة الصعبة، وضعت البنوك مزيدا من العراقيل و أصبح الامر يتطلب إعلانًا مسبقًا عن المشروع وتقديرًا للمبالغ التي من المفترض تلقيها عن كل عملية تصدير للخدمات، مما دفع عديد المستقلين إلى إغلاق حساباتهم واعتماد حلول مثل ما توفره بايسيرا. لأنه و في كل الأحوال، كما صرح وزير الداخلية السابق، دحو ولد قابلية، في عام 2012، ردا على سؤال حول محاربة السوق السوداء: ” يجد الكل ضالته في هذه السوق “.

اعتقالات

لا يمكن إنكار أن السوق الموازية للعملة، و التي أصبحت الآن ” رقمية” بفضل بايسيرا ، سهلت الحياة بالنسبة للعديد من الجزائريين. ومن المعروف أيضًا أنه حتى قبل العصر الرقمي، تحوف أي سوق غير رسمية الكثير من المخاطر بالنسبة للمتعاملين. و أجاب عصام، صاحب متجر حي فرحات بوسعد، عندما سُئل عما إذا كانت الشرطة قد داهمته من قبل بسبب نشاطه المتعلق بالعملة، أن ذلك لم يحدث. و أضاف: ” في وقت سابق من هذا العام، تم إلقاء القبض على تاجر آخر في السوق “.

في أفريل 2021، و في إطار حملة قمع الحراك الشعبي، تٌوبع العديد من النشطاء بتهمة التمويل المزعوم من الخارج،  ولا سيما من طرف قادة حركة رشاد، المصنفة ك ” منظمة إرهابية“. ونتيجة لذلك، تم استهداف بعض تجار العملة، وحتى بعض العاملين في البنوك، و الذيم طالتهم موجة من الاعتقالات.

إلى جانب الحراك ورشاد والبعد السياسي لهذه الحلقة، لطالما اتُهمت السوق الموازية للعملة بالترويج لأنشطة غير مشروعة ، بل وحتى إجرامية مثل تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

يجب أن نعرف أيضًا ما هو موقف السلطات الجزائرية” من بايسيرا، تتساءل السيدة طلاحيت مرة أخرى. و تسترسل قائلة: ” أ و ليست بالنسبة إليهم طريقة لتحرير سعر صرف الدينار دون جعل الدولة تأخذ أي مخاطرة، لأن كل المخاطر سيتحملها الخواص ؟ مع المحافظة على سعر صرف رسمي أكثر فائدة للمعاملات التي تجريها الدولة و المحظوظين من المستفيدين من النظام“.

ما هو مؤكد هو أن خدمة مثل خدمة بايسيرا كانت لتنقذ أحد الصاغة الجزائريين من مصيبة. ففي عام 2018، و في محاولة للالتفاف على التشريعات الجزائرية خلال عملية لاستيراد المجوهرات، حاول الصائغ صالح مناوي، صاحب 67 سنة، نقل ما يقرب من 150 ألف يورو نقدًا في قناته الشرجية إلى تركيا، قبل أن ينتهي به المطاف في أحد مستشفيات  مدينة اسطنبول لأنه لم يتمكن من سحب المبلغ.


تم إنجاز هذا التحقيق بالتعاون مع أريج