جار التحميل ...

أبو الفنون القسنطيني : مسار حافل من العطاء

بالعودة الى ذاكرة المسرح بقسنطينة أو أبو الفنون كما يحلو لعشاقه تسميته ، نجد أنه احتل و لفترة ضاربة في جذور التاريخ مكانة مرموقة ، حيث كانت الفرق المسرحية للمجموعات اليونانية الكبرى القادمة من "رودس" اليونان تقيم عروضا في مدينة "قرطا" ابان حكم ماسينيسا.


“صالح بن صياد” شاب نشأ ضمن مجتمع يسوده الانحطاط الأخلاقي و الفكري، شخصية نرجسية يسعى إلى السيادة و الفوز بالمكانة المرموقة و المقام العالي، وأن يكون محطّ إعجاب الجنس اللطيف ، يخلد التاريخ اسمه بعد ان يدخله من بابه الواسع، ليصطدم بعديد العقبات التي تحول دون ذلك، فيجد أن السبيل الوحيد لذلك هو أن يغدو دكتاتورا. لتتسلسل أحداث قصة “صالح بن صياد” في طريقه الى الشهرة و المجد ضمن قالب كوميدي ساخر بامتياز، عالج من خلاله المخرج الكثير من العلل الاجتماعية و الواقعية كصراع الأجيال الذي جسده الخلاف الدائم بين البطل و والده “المنور بن صياد” ، إضافة الى عقدة الأنا الأعظم التي تسيطر على الكثيرين انطلاقا من صناع القرار الى أبسط المواطنين.

بالإضافة إلى شخصية “صالح”  تقمص الممثل على الركح خلال العرض الكثير من الشخصيات الأخرى ، منها شخصيات سياسية اعتلت سدة الحكم في البلاد كإحالة فنية أرادها المخرج مطابقة لما مرت به البلاد في المرحلة السابقة.

جرت وقائع هذا العرض بين أحضان المسرح الجهوي لقسنطينة محمد الطاهر فرقاني و هوعرض وان مان شو بعنوان “الدكتاتور” لمخرجه و صاحب نصه أحمد رزاق، و تمثيل شاكر بولمدايس، عن رواية “البطل” لإحسان عبد القدوس، و إنتاج جمعية الشمعة.

وقد أٌنتج هذا العمل في نسخته الأولى سنة 2018، وعرض مرة واحدة بالمسرح البلدي “كازينو” بالجزائر العاصمة قبل أن يتوقف لأسباب يرجح أنها سياسية، أزعجت السلطات أنذاك، ليعود “الدكتاتور” و يعانق الخشبة مجددا من المسرح الجهوي القسنطيني.

مدرسة تعاقبت عليها أجيال

 يعد الممثل شاكر بولمدايس أصيل مدينة قسنطينة، أحد خريجي مسرحها الجهوي حيث بدأ مشواره مع جمعية أهل المسرح التي جسد معها أول أدواره ليلتحق بالمسرح الجهوي لقسنطينة و يبرز في العديد من الأدوار وعديد المسرحيات على غرار مسرحية “الأجواد” سنة 2011 و مسرحية “نساء المدينة” سنة 2014. و يمكن اعتباره خير خلف  لأجيال من أسلافه الذين  سبقوه إلى اعتلاء ركح مسرح قسنطينة الجهوي من خلال أعمال و مسرحيات صنعت تاريخ المسرح الجزائري و مجده.

بالعودة الى ذاكرة المسرح بقسنطينة أو أبو الفنون كما يحلو لعشاقه تسميته، نجد أنه احتل و لفترة ضاربة في جذور التاريخ مكانة مرموقة، حيث كانت الفرق المسرحية للمجموعات اليونانية الكبرى القادمة من “رودس” اليونان تقيم عروضا في مدينة “قرطا” ابان حكم ماسينيسا. أما خلال الفترة الاستعمارية فقد أصبح المسرح رمزا للمقاومة و النضال السياسي و أسلوب للتوعية و التحسيس، استغله العديد من المفكرين الجزائريين من خلال مؤلفاتهم على غرار أحمد رضا حوحو، كاتب ياسين و غيرهم، و من الممثلين أمثال قاسي القسنطيني، عاشق يوسف عبد الرحمان، الحسين بن الشيخ الفقون و غيرهم.

أما بعد الاستقلال فظهرت عدة جمعيات و فرق مسرحية للهواة صنعت جيلا جديدا استطاع أن يترك بصمته راسخة في المسرح  من خلال عدة أعمال مسرحية قبل أن تنبثق من هذه الفرق الهاوية فرقة واحدة محترفة فرضت نفسها و استطاعت عبر 40 سنة من العطاء المسرحي أن تسجل اسمها بحروف من ذهب في سجل المسرح الجزائري.

ففي سنة 1965 تأسس المركز الجهوي للتنشيط الثقافي “قراك” على يد المرحوم عبد الحميد حباطي، المرحوم سليم ميرابية ، عبد القادر ملول، علاوة وهبى و غيرهم ، لتنضم إليهم عديد الأسماء الكبيرة في عالم المسرح و التلفزيون حاليا على غرار عنتر هلال، جمال دكار، عيسى رداف، عبد الله حملاوي و غيرهم. و كان لهذه الفرقة أحد عشر إنتاجا مسرحيا بين سنتي 1966 و 1968 منها مسرحية “مدرسة الكذابين” سنة 1966، مسرحية “شرارة في القصب” سنة 1967 و التي تحصلت على الجائزة الأولى لمهرجان مستغانم سنة 1968، و مسرحية “خط رجل” و “ذات يوم الزنوج” التي تحصلت على الجائزة الأولى للمهرجان الثقافي بقسنطينة و الجائزة الأولى لمهرجان مستغانم سنة 1969.

سنة 1968 ظهر فوج العمل الثقافي “قاك” ، الذي أسسه كل من عبد الله حملاوي ، بوغابة عبد الحميد ، زيتوني رابح ، دربال سليم و غيرهم ، ثم انضم اليهم من الشباب : شعبان زوق ، حسن بوبريوة ، علي عيساوي ، عزوز دعرة ، حسان بولخروف ، جمال مزواري ، سامي بن الشيخ و غيرهم . في رصيد الفرقة خمسة عشر عملا مسرحيا بين سنتي 1969 و 1987 بمعدل عمل كل سنة ، منها مسرحية “الانفجار” سنة 1969 و التي فازت بجائزة أحسن أداء رجالي للممثل عبد الله حملاوي بمهرجان مستغانم ، مسرحية “الموجة” سنة 1976 و التي نالت الجائزة الكبرى لأحسن عرض خلال مهرجان مستغانم ، و مسرحية “عيون الكلام” سنة 1987 التي توجت بالجائزة الكبرى لأحسن عرض خلال مهرجان مستغانم أيضا.

شهر ماي 1974 تأسست فرقة مسرح العمال ضمت عديد الأسماء منها :حبشي محمد ، دهيمي محمد طيب ، بوفنارة ليلى ،نفير عزوز ، و غيرهم ، في رصيد الفرقة 8 أعمال مسرحية بين عامي 1974 و 1989 منها “الحوات و القصر”.

كما ظهرت فرق و جمعيات أخرى منها فرقة ليالي سيرتا ، أهل الفن ، مسرح الليل ، التعاونية الثقافية الشنعة للفنون ، جمعية البليري للفنون و الأدب ، و غيرها .

نهاية سنة 2019 ، ظهرت مبادرة مسرح قسنطينة لصاحبها و المسؤول عنها صلاح الدين ميلاط قبل أن تتبنى مؤسسة المسرح الجهوي الفكرة ، ليتجند أغلب الفنانين الشباب بقسنطينة لإنجاح الفكرة ، بإعطاء كمال خبرتهم و دعمهم للجيل الجديد من خلال تكوين دام 3 سنوات ، لتتخرج الدفة الأولى للمدرسة سنة 2022 تحت اشراف الفنان و المكون عدلان بخوش ، و الدفعة الثانية سنة 2023 تحت اشراف الفنان و المكون يسعد عبد النور ، هذا و استفاد طلاب المدرسة من حصص تكوينية مع مختلف الفنانين من مختلف ولايات الوطن .   

أعمال مسرحية خلدها تاريخ المسرح

يزخر تاريخ مسرح قسنطينة الجهوي محمد الطاهر فرقاني بسجل حافل من  الأعمال المسرحية التي جسدتها أسماء أعلام المسرح الجزائري ، و تركت انطباعا جيدا و أثرا لا ينسى بمرور الزمن لدى من شاهدها على غرار مسرحية “الطمع يفسد الطبع” انتاج المسرح الجهوى لقسنطينة و عنابة تحت ادارة الفنان سيد أحمد أقومي سنة 1974 ، من أداء : صونيا ، عمار محسن ، مصطفى عياد واخرون .

مسرحية “ريح السمسار” من انتاج مسرح قسنطينة الجهوي سنة 1979 من أداء : عنتر هلال ، عبد الحميد حباطي ، عمار محسن ، علاوة زرماني ، فطيمة حليلو ، محمد الطيب دهيمي ، عيسى رداف ، حسن بوبريوة ، يمينة جلول .

مسرحية “عيون الكلام” من انتاج مسرح قسنطينة الجهوي سنة 1987 ، مسرحية “الدراويش” سنة 1989 من أداء : عنتر هلال، عيسى رداف ، فطيمة حليلو، حسن بوبريوة ، و غيرهم .

خلال سنوات العشرية السوداء لم يتوقف مسرح قسنطينة عن الانتاج و لم يتوقف فنانوها عن المقاومة و النضال فوق الخشبة رغم الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد آنذاك على الصعيد الأمني و الاقتصادي و حتى الاجتماعي ، فأنتج مسرح قسنطينة الجهوي أعمالا استقطبت كل من كان له أمل في غد أفضل منها : “ديوان لعجب” سنة1990 ، “الأغنية الأخيرة” سنة 1993 ، “خط الرمل” سنة 1993 ،”السيد الوزير” سنة 1997 و غيرها .

هذا و سار جيل الألفية على نفس خطى سابقيه و حافظ على رسالتهم من خلال أعمال هادفة تركت بصمتها على غرار “العرضة” سنة 2013 تمثيل : أحمد حمامص ، شاكر بولمدايس ، سامية طبوش ، سيف الاسلام بوكرو نوال عواق .

مسرحية “نساء المدينة” سنة 2015 من أداء : شاكر بولمدايس ، جمال مزواري ، نجلاء طرالي ، موني بوعلام ، صابرينة بوقرية و رمزي لبيض . مسرحية “ليلة دم” لمخرجها كريم بودشيش  سنة 2016 من أداء :محمد دلوم ، رمزي لبيض ، عتيقة بلازمة ، حسان بولخروف ،كمال فراد ، جمال مزواري ، أسامة بودشيش ونجلاء طارلي  و التي دارت أحداثها حول مخلفات العشرية السوداء و قانوني الوئام المدني و المصالحة الوطنية .

مسرحية “اه يا ليل” لمخرجها هارون الكيلاني سنة 2018 من تمثيل رمزي لبيض ، لياس عطاش ، ياسمين عباسي و غيرهم .

مسرحية “أرامل” لشاهيناز نغواش سنة 2019 من أداء : موني بوعلام ، نجلاء طرالي ، و ياسمين عباسي .  

تحفة ساحرة تحاكي العلم وتغازل العلماء وتربط للفن جسورا معلقة بين الارض والسماء

لا يزال مسرح قسنطينة الجهوي محمد الطاهر الفرقاني الذي يحاكي الطابع المعماري للأوبرا الإيطالية والفريد من نوعه بالجزائر وبشمال إفريقيا، يقاوم الزمن بالرغم من مرور ما يقارب 140 سنة عن افتتاحه .

و قد تم بناؤه من طرف الاحتلال الفرنسي ، و دامت الأشغال به 22 سنة حيث انطلقت سنة 1861 و دشن بعد انتهائها بتاريخ 6 أكتوبر 1883 ، بني على نمط الأوبرا الايطالي على مساحة قدرها 1568 متر مربع ، يتوسطه بهو جميل تملأ جدرانه صور لأعمال مسرحية مختلفة و لفناني مسرح قسنطينة من أجيال مختلفة ، كان يحتوي على 5 ثريات كبيرة اختفت خلال سنوات السبعينيات ، اضافة الى رسومات اختفت بسبب تسربات مياه الأمطار و التي أجهزت على كل التحف الفنية في ذات المكان .

قاعة العروض الكبرى مصممة على شكل حذوة حصان يوزع فيها الصوت بشكل منظم دون اللجوء لمكبرات الصوت ، للقاعة 3 طوابق و تتسع لحوالي 450 شخصا ، بينما تمتد خشبة المسرح بمقياس 8.20 متر / 16.40 متر بها 3 طوابق فوقها و 3 أخرى تحتها .

شهدت بناية المسرح 3 عمليات ترميمية أولاها بين سنتي 1972 و 1974 ، و الثانية سنة 2001 و 2002 و اخيرا سنة 2014 و2015 ضمن فعاليات قسنطينة عاصمة الثقافة العربية .

و تعد بناية مسرح قسنطينة الجهوي من أعرق المسارح في الجزائر و صنفت كمعلم تاريخي ضمن الممتلكات الثقافية سنة 2010 . 

لطالما كان مسرح قسنطينة الجهوي قبلة للمثقفين و المتمردين من عشاق الفن الرابع و منارة فنية ساهمت في جميع أنواع النضالات على مر السنوات من خلال أعمالها ، رغم كل هذا التاريخ فالمسرح اليوم ليس في أحسن حالاته بسبب البيروقراطية الادارية تارة و سوء التسيير تارة أخرى إضافة الى نقص الموارد المالية ما جعله يدخل حالة من الركود ، و يتحول من صرح تصدح فوق ركحه أصوات حرة الى مكان تملأه ذكريات هذه الأصوات بعد أن صارت كل الأعمال تقريبا مناسباتية ، تخلو من أي ابداع أو روح .أما جمهور المسرح بقسنطينة الذي قال عنه الممثل سيد احمد أقومي ” الجمهور القسنطيني هو مقياس كل فنان لأنه جمهور ذواق و ناقد كبير” ، فلطالما ملأ قاعة المسرح عن أخرها في سنوات كان للمسرح فيها وزنه و دوره .